فصل في بيان طباع الناس في الرغبة في
الدنيا و الآخرة
فنقول: اعلم يا أخي أن الناس، و إن كان أكثرهم مطبوعين على الرغبة في
الحياة الدنيا، و الحرص على طلب شهواتها، و الميل إلى التمتع بلذّاتها، غافلون عن
أمر الآخرة و نعيمها و سرور أهلها و دوام لذّاتها؛ و أنّ كثيرا من الناس أيضا كلهم
مجبولون على التديّن و الورع و الخير، و الزهد في الدنيا و ترك شهواتها، و الرغبة
في الآخرة و طلب نعيمها، و كثرة التفكّر في أمر المعاد بعد الموت، و الرغبة في
معرفته و حقيقة الحال في المنقلب، و هم في دائم الأوقات يسألون اللّه الرحمة و
المغفرة، و يطلبون منه حسن التوفيق و خير الآخرة، و يتقربون إليه بالصلاة و الصوم
و التسبيح و القرآن و الدعاء و فنون العبادات، كلّ ذلك بحسب ما يمكنهم و يؤدي إليه
اجتهادهم، و يحسن في عقولهم، و يتحقق في نفوسهم.
ثم اعلم أن اللّه تعالى ما بعث الرسل و الأنبياء، :، إلى
الناس إلّا بالتأكيد لما في نفوسهم من أمر الدين بطلب الآخرة، إرشادا لهم إلى ما
هو أصلح مما اختاروه بعقولهم، و أقرب مسلكا، و أفضل سيرة، و أحسن طريقة، فيما
أدّاهم إليه اجتهادهم، و تحقّق في نفوسهم بآرائهم. و الدليل على صحة ما قلنا قوله
تعالى لنبيه، 7: «قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم». و ذلك
أن القوم الذين بعث إليهم النبي، عليه الصلاة و السلام و التحية و الرضوان، كانوا
يتديّنون بعبادة الأصنام، و كانوا يتقرّبون إلى اللّه تعالى بالتعظيم لها و السجود
و الاستسلام و البخورات، و كانوا يعتقدون أن ذلك يكون قربة لهم إلى اللّه و زلفى.
و الأصنام هي أجسام خرس لا نطق لها و لا تمييز و لا حسّ و لا صورة و لا حركة!
فأرسلهم اللّه و دلّهم على ما هو أهدى و أقوم و أولى مما كانوا فيه: و ذلك أن
الأنبياء، :،