و إن كانوا بشرا فهم أحياء ناطقون مميّزون،
علماء مشاكلون للملائكة بنفوسهم الزكيّة، يعرفون اللّه حق معرفته، و التقرّب إلى
اللّه تعالى بهم أولى و أهدى و أحق من التوسّل بالأصنام الخرس التي لا تسمع و لا
تبصر، و لا تغني عنك شيئا.
ثم اعلم أنّا نبيّن هاهنا بدء عبادة الأصنام، فنقول إنّ بدء عبادة
الأمم للأصنام أولا كان عبادة الكواكب، و بدء عبادة الكواكب كان عبادة الملائكة، و
سبب عبادة الملائكة كان التوسّل بهم إلى اللّه تعالى و طلب القربة إليه: و ذلك أن
الحكماء الأولين، لما عرفوا، بذكاء نفوسهم و صفاء أذهانهم، أن للعالم صانعا حكيما،
و ذلك لتأمّلهم عجائب مصنوعاته، و تفكّرهم في غرائب مخلوقاته، و اعتبارهم تصاريف
أحوال مخترعاته، و لما تحقّقت في نفوسهم هويّته، أقروا له عند ذلك بالوحدانية، و
وصفوه بالرّبوبيّة، و لما علموا أن له ملائكة هم صفوته من خلقه و خالص عباده من
بريّته، طلبوا عند ذلك إلى اللّه القربة و توسّلوا إليه بهم، و طلبوا الزّلفى لديه
بالتعظيم لهم، كما يفعل أبناء الدنيا و يطلبون القربة إلى ملوكهم بالتوسل إليهم
بأقرب المختصين بهم، و كان من الناس من يتوسّل إلى الملك بأقاربه و ندمائه و
وزرائه و كتّابه و خواصّه و قواده و بمن يمكنه بحسب ما يتأتى له، الأقرب فالأقرب و
الأدنى فالأدنى، كلّ ذلك طلبا للقربة إليه و الزّلفى لديه.
فهكذا و على هذا المثال فعلت الحكماء و أهل الديانات، و من عرف اللّه
و آمن به و أقرّ به، فإنهم طلبوا القربة إليه و الزلفى عنده: كلّ واحد بحسب ما
أمكنه و تأتى له و أدى إليه اجتهاده و تحقّق في نفسه.
فلما مضى أولئك الحكماء و الرّبّانيون العارفون بالله حقّ معرفته و
انقرضوا، خلفهم قوم آخرون لم يكونوا مثلهم في المعرفة و العلم، و لم يعرفوا مغزاهم
في دياناتهم، فأرادوا الاقتداء بهم في سيرتهم، و اتخذوا أصناما على مثل صورتهم؛ و
صوروا تماثيل على مثل ما فعلت النصارى في بيعهم من التماثيل