المفسدة من الجسد، و كيف تدفع تلك الأشياء
عن جسدها، إما بالفرار و الانقباض عنها، و إما بالقوة و الجلادة و المجاهدة، و إما
بالحيلة و المداراة.
و لو لم تفعل ذلك لهلكت الأجساد في أقرب مدة و أهون سعي قبل التمام و
الكمال. فإذا جاءتها المقادير و الوقت المعلوم و الأسباب الغالبة القاهرة، فانظر
كيف تسلّمها إليها، و كيف تفارقها على غير اختيار منها.
فأما ما دام له طمع في دفع تلك الآلام الواردة المؤذيات فهي في
العلاج و الجهاد، رجاء للصلاح، و حرصا على البقاء، و محبة على الوجود على أتم ما
يمكن، إذ كان هذا هو الخير، و كراهية منها للفناء على هذا النقص، إذ كان هو الشر،
لأن العدم المطلق ليس للأجسام و لا للنفوس، ما دام العالم موجودا. فقد تبيّن من
ذلك أن الآلام أيضا بقصد و عناية و اقتضاء الحكمة.
فصل في بيان الشرور التي في جبلة الحيوانات المختلفة الصور و
الأشكال هي بالقصد الثاني
فنقول: أما الخيرات التي في جبلة الحيوانات و أخلاقها التي هي الإلف
و المحبة، و الشرور التي هي العداوة و الغلبة و القهر فهي أيضا بالقصد الثاني.
و ذلك أنه لما كانت الحيوانات مختلفة الصّور و الأشكال و الطباع و
العادات و الأخلاق و الأفعال لأسباب يطول شرحها- و قد بيّنّا طرفا في رسالة العلل
و المعلولات- جعل بين بعضها و بعض ألفة و محبة و مودة، لكيما يكون ذلك سببا
لاجتماعها و اتفاقها، لما في ذلك من صلاح الكل و النفع على العموم.
و جعل أيضا بين بعضها و بين بعض نفورا و عداوة، ليكون سببا لتباعدها
و تفرقها، لما في ذلك أيضا من صلاح الكل و النفع على العموم. مثال ذلك إلف بعض
الحيوانات للإنسان و انقيادها للطاعة، كالبقر و الغنم و الخيل و البغال و الحمير