و المكوّنون معادنها، كلّ ذلك بإذن اللّه
تعالى و تقدس. «وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ
الْأَرْضِ» «وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ».
و من أجلهم خلق السماوات، و من أجلهم بسط الأرض، و بهم تدبير العالم،
كل ذلك ليبلّغهم أقصى درجات غاياتهم التي هي البعث و الخلود في النعيم أبد
الآبدين. و قالوا هذا كله حكمة وجود و فضل و نعم و إحسان و خيرات، و اللّه تعالى
خالقها و جاعلها و علّتها و مبقيها و متممها.
فأما الشرور فهي عدم هذه الخيرات عن الهيولى و نقصانها عنه: و ذلك
أنها لو خلّيت بطبيعتها لرجعت إلى حالتها الأولى، و خلعت الصورة عن ذاتها، و بطل
نظام العالم، و اضمحل وجود الخلائق، و كان من ذلك بوار الكل و الفساد، و هو الشرّ
المحض، و لكن من حكمة اللّه لا يقتضي تركها، لأن تصويره الهيولى إيجاد، و تركيب
العالم منه حكمة، و النشوء وجود منه و تفضل عليهم و رحمة لهم. و العدم بعد الوجود
شرّ، و نقض الحكمة سفه، و استرجاع الفضل لؤم، و ترك الرحمة قساوة، تعالى اللّه عن
ذلك علوّا كبيرا.
ثم اعلم يا أخي أن ليس مما حكى هؤلاء من أحوال الهيولى و وصفوا من
أسباب الشرور و نسبوها إلى الهيولى بمنكر عند خصمائهم، غير قولهم بقدمها! و إن
كانوا أرادوا بقولهم: قدم الهيولى الأولى، أنها أقدم من الشيء الموضوع المصنوع
منها، فهذا قول صحيح. و إن أرادوا أنها ليست مبدعة و لا مخترعة، فالمنازعة في هذه
الحكومة وقعت، فقد بيّنّا في رسالة المبادي حقيقتها و كيف هي مبدعة و مخترعة.
ثم اعلم أن كثيرا من أهل العلم و من تكلم في حقائق الأشياء لا يعرفون
الفرق بين الشيء المخلوق و المصنوع، و بين المخترع المبدع. و هذا أحد أسباب
الخلاف بين العلماء في آرائهم و مذاهبهم في قدم العالم و حدوثه.
ثم اعلم أن الخلق هو تقدير كل شيء من شيء آخر، و المصنوع ليس هو