بشيء غير كون الصورة في الهيولى. و أما
الإبداع و الاختراع فهو إيجاد شيء لا من شيء، و هذه المعرفة. و تصوّر هذه
الحكومة يبعد عن كثير من المرتاضين بالرياضات الحكميّة، فكيف على غيرهم.
ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم الهيولى إنما دعاهم إلى هذا النظر و
الرأي نظرهم إلى الموجودات الجزئيّات التي دون فلك القمر، و اعتبارهم هذه الكائنات
الفاسدات من المعادن و النبات و الحيوان، و ذلك أنهم وجدوا كلّ مصنوع بشري و طبيعي
مركّبا من هيولى ساذج، لا شكل فيه قبل تصوير الصانع له بذلك الشكل، و إذا خلا ذلك
المصنوع زمانا طويلا، اندرس و اضمحلّ، و انخلعت الصورة عنها، و رجعت إلى حالتها
الأولى ترابا. مثال ذلك البنايات المتّخذة في المدن و القرى: و ذلك أنهم رأوا
صنّاعها جمعوا التراب و الخشب و بنوها، ثم يحفظونها بالمرمّات[1]
لتدوم زمانا، فإذا خلت زمانا طويلا، تهدمت و اندرست، و اضمحلت، و صارت ترابا و
حجارة، كما كانت بديّا. و هكذا حكم النبات و الحيوان و المعادن التي هي مصنوعات
طبيعية فإنها تصير كلها يوما ترابا و إن طال الزمان.
فعلى هذا القياس و الاعتبار حكموا على الهيولى الأولى و صنعة الباري
فيها العالم و حفظه على ما هو عليه الآن من النقش و التصاوير و الأشكال و الهيئات
المختصّة بفلك فلك، و كوكب كوكب، و ركن ركن، و أجناس الحيوانات أجمع، و النبات و
المعادن واحدا واحدا.
و أما الهيولى التي لا كيفيّة فيها فليست هي محتاجة في وجودها إلى
صانع و فاعل- بزعمهم- فهذا كان اعتبارهم، و إلى هذا الموضع كان مبلغ اجتهادهم.
فأما الذين قالوا بحدوث الهيولى فإنهم نظروا أدقّ نظر من أولئك، و
تأملوا أجود من تأملهم، و بحثوا أشد بحثا منهم، كما بيّنّا فيما تقدّم ذكر ذلك،
فاطلبه من هناك.