و بين هؤلاء منازعات و مناقضات يطول شرحها،
مذكورة في كتب جدالهم و خصوماتهم.
و الذين قالوا إن تلك العلة هي علمه السابق طائفتان: فمنهم من يرى و
يحتج بأنه خلق العالم لأنه كان عالما بأنه سيخلق، فلو لم يخلق لكان مخالفا للعلم،
و المخالف للعلم جاهل، و هو تعالى منزّه عن أمثال الخلق. و منهم من يرى أنه سيخلق
لأن خلقه للعالم حكمة، و فعل الحكمة عند الحكيم واجب، فإذا لم يفعل الحكيم الحكمة
يكون سفيها. فلو لم يخلق إذا العالم لكان تاركا للحكمة، و تارك الحكمة سفيه، تعالى
اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
و هذا أرجح الأقاويل و أحق الصواب.
فصل في بيان القائلين إن أسباب الشرور في العالم بالعرض لا بالقصد
و أما القائلون بأن الشرور هي عارض في العالم من قبل الهيولى الذي هو
جوهر منفعل، ناقص القبول للفضائل، فطائفتان: إحداهما ترى و تعتقد قدمها فيما مضى
دهرا طويلا و هي عادمة للصورة و الأشكال و الكيفيات أجمع. ثم إن الباري تعالى قصد
و صوّر في تلك الهيولى عالم الأجسام ذا الثلاثة الأبعاد، و جعلها على أشكال كريّات
مستديرات، محيطات بعضها ببعض، كما ذكر في كتاب المجسطي، و كتاب بانياس الحكيم في
تركيب الأفلاك و أطباق السماوات، و جعلها مسكنا لعبيده، و مأوى لجنوده، و هي
النفوس السارية في العالم من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، و هي أجناس
الملائكة، و قبائل الجن، و أحزاب الشياطين، و أرواح بني آدم و الحيوانات أجمع، و
هم سكان سماواته، و قاطنو أرضه، العامرون عالمه، المديّرون أفلاكه، المسيّرون
كواكبه، المعيّشون حيوانات أرضه، المربّون نباتها،