و الترتيب، الأوّل فالأول، كما بيّنّا في
رسالة المبادي العقلية.
فقد تبيّن بما ذكرنا و شرحنا أن العالم مصنوع يعلم ذلك بالعقل الغريزي
إذا اعتبر هذا الاعتبار، و يعلم أن الهيولى مبدع مخترع، بالعقل المكتسب إذا اعتبر
هذا الاعتبار، و يعلم أن الهيولى على ما ذكرنا.
و لما تبين لهؤلاء الحكماء ما العلة الفاعلة، و ما العلة الهيولانية،
و ما العلة الصّوريّة، بحثوا عن العلة التماميّة التي هي الغرض الأقصى الذي من
أجله يفعل الفاعل فعله، و هذه المسألة أيضا من إحدى أمهات المباحث التي منها تتفرع
سائر الآراء و المذاهب. و الذي أدّاهم إلى هذا البحث هو نظرهم إلى الصنائع
البشرية، و ذلك أنهم وجدوا لكل صانع بشري في فعله غرضا، و الغرض هو الغاية التي
يسبق إليها فهم الفاعل أولا، و هو من أجله يفعل الفاعل فعله، فإذا فعله و بلغ
إليه، قطع ذلك الفعل. و هما طائفتان:
فمنهم من يرى و يعتقد أن الباري تعالى خلق العالم لعلة ما، و الأخرى
تعتقد و ترى أنه لا لعلة. و الذي أدّاهم إلى الرأي هو نظرهم و بحثهم و اعتبارهم
على هذا الوجه الذي نقرره نحن: و هو أنهم قالوا: لا تخلو تلك العلة من أن تكون هي
اللّه تعالى أو غيره، فإن كانت غيره، وجب القول بالمثنويّة، و قد قام البرهان على
فساد هذا الرأي. و إن كانت ليس غيره، فهذا الذي قلنا، و إلى هذا كان علمهم، و إلى
هاهنا كان اجتهادهم.
و الذين قالوا بالعلة التمامية طائفتان: إحداهما ترى و تعتقد أن تلك
العلة هي إرادة الباري تعالى و مشيئته. و منهم من يرى و يعتقد أنها علمه السابق.
و القائلون بالإرادة طائفتان: فمنهم من يرى و يعتقد أنها علمه
السابق، و أن إرادة اللّه صفة من صفاته. و منهم من يرى و يعتقد أنه فعل من أفعاله.
و الذين قالوا إنه صفة من صفاته طائفتان: فمنهم من يرى و يعتقد أنها صفة ذاتيّة، و
منهم من يرى أنها صفة عرضية. و الذين يرون أنها صفة عرضيّة، فمنهم من يرى أنها
قائمة به، و منهم من يرى أنها قائمة بغيره، و منهم من يرى أنها قائمة بنفسها.