و سائر الأفلاك و الكواكب. و الذي أدّاهم
إلى هذا الرأي اعتقادهم للأمور، و قياسهم هيولى الصناعة، و ذلك أن منهم لما رأوا
هيولى الصنائع مختلفة الكيفيات، فإذا ألّفت كانت منها جزئيات من المصنوعات
المختلفة كالسرير و الباب المؤلّف من الخشب.
و هكذا حروف الكتابة، و نغمات الألحان، و أصوات الموسيقار، و عقاقير
الأطباء، و أصباغ المصورين، و حوائج الطباخين و الحلاويين، و ما شاكلها فإنها كلها
مختلفة الكيفيات، إذا اجتمعت و ألّفت و ركّبت كانت منها ضروب المصنوعات، كما
بيّنّا في رسالة نسب الموسيقى. فبهذا الاعتبار و القياس حكموا على تلك الأجزاء
التي زعموا أنها لا تتجزأ بكيفيّات مختلفة الصور، و إلى هذا الموضع كان علمهم، و
إليه أدّاهم اجتهادهم.
و منهم من كان أدقّ نظرا من هؤلاء، و أشدّ تمييزا و بحثا، فزعموا أن
تلك الأجزاء كلها متماثلة، فيسدّ بعضها مسدّ بعض و ينوب منابه. فإذا ألّفت ضروبا
من التأليف، و شكّلت ضروبا من الأشكال، و اختلطت ضروبا من الاختلاط، حدثت منها
أعراض ثم كيفيات و هيئات و صفات و ألوان و طعوم و روائح و ما شاكلها. و الذي
أدّاهم إلى هذا الرأي و الاعتقاد اعتبارهم هيولات الصنائع فإنها متماثلة الأجزاء،
فإذا صوّرت ضروبا من الأشكال اختلفت أسماؤها و أفعالها، كما بيّنّا طرفا في رسالة
الهيولى و الصورة.
مثال ذلك قطعتان من حديد صوّرت إحداهما بشكل تسمى سكينا، و الأخرى
منشارا. و فعل السّكّين خلاف فعل المنشار، و الحديد واحد، لأن الذي عمل من هذه كان
جائزا أن يعمل من تلك. الأجزاء متماثلة و المؤلّف المركّب مختلف، و إلى هذا الموضع
كان مبلغ علمهم و دقّة نظرهم.
و منهم من كان أدقّ نظرا و أشد بحثا و ألطف، و قالوا: إن الهيولى
إنما هي جوهر بسيط روحاني معرّى من جميع الكيفيات، قابل لها على النظام