قالوا: لا يخلو الأصلان القديمان من أن يكونا متفقين في كل شيء من
المعاني، أو مختلفين في جميع المعاني، أو متفقين في شيء و مختلفين في شيء.
فإن كانا متفقين في جميع المعاني فواحد لا اثنان، و إن كانا مختلفين
في المعاني، فأحدهما عدم. و إن كانا متفقين في شيء و مختلفين في شيء، فالشيء
الثالث، و قد بطلت المثنويّة، فيجب أن يكون أصل العالم ثلاثة. و القائلون بالثلاثة
أو أكثر لازمة لهم هذه الحكومة و الشنيعة أيضا. فأمّا العلّة الواحدة فمتفق عليها
بأن من يقول بالاثنين كمن يقول بالواحد، ثم أدعى إلى مادة الزيادة.
فصل
و أما بيان البحث عن حدوث الهيولى فنقول: أما المقرّون بحدوث الهيولى
من الحكماء القدماء فإنهم لما أرادوا البحث عن ذلك، ابتدءوا أولا بالنظر في العلوم
الرياضية فأحكموها، ثم بحثوا عن الأمور الطبيعية، فعرفوها معرفة صحيحة، ثم
تفكّروا، عند ذلك، في الأمور الإلهية، و بحثوا عنها بحثا شديدا بنفوس صافية، و
أفهام زكية، و عقول وافية، فأدركوا ما طلبوا، و تصوّروا ما بحثوا عنها عن قوة
معرفة صحيحة، و سكنت صدورهم إلى ذلك.
و قد بيّنّا في رسائلنا الإلهية طرفا من ذلك، و لكن نذكر أيضا في هذا
الفصل مثلا واحدا ليكون دليلا على صحة ما قلنا، و ذلك أنهم لما أرادوا النظر في
حدوث العالم كيف كان بعد أن لم يكن، و ما ذلك الصانع الذي صنعه، نظروا أولا إلى
المصنوعات فتأملوها، فوجدوها أربعة أنواع: فمنها مصنوعات بشريّة نحو ما يعمله
الصّنّاع في أسواق المدن. و منها مصنوعات طبيعية