الدنيا، و العلماء مختلفون في علة كون
الشرور في هذا العالم لمن هو؟ و من الفاعل لها بالحقيقة؟ و من أين كان أصلها؟ و
سنذكر بعد هذا الفصل ما قالوه و تكلموا فيه.
فصل في بيان أسباب العلة الداعية للقائلين بالأصلين
فنقول: اعلم، وفقك اللّه، أن القائلين بالأصلين طائفتان: إحداهما ترى
و تعتقد أن لهما فاعلين أحدهما نور خيّر، و الآخر ظلمة شرّير. و هذا رأي زرادشت و
ماني و أتباعهما، و بعض الفلاسفة. و الطائفة الأخرى ترى و تعتقد أن إحدى العلّتين
فاعل و الأخرى منفعل، يعنون به الهيولى. و هذا رأي بعض الحكماء اليونانيين، و الذي
دعاهم إلى هذا الرأي هو نظرهم إلى الشرور التي تجري بين كل اثنين متنازعين من
الناس و الحيوان، من القتل و الحروب و الخصومات و العداوات، و ما يحدث بينهما من
الأسباب و الأحوال، فبهذا الاعتبار قالوا، و بهذا القياس حكموا بأن حدوث العالم
كان سببه من فاعلين اثنين متنازعين، لكن أحدهما خيّر و الآخر شرير. فهذا كان
قياسهم، و إلى هذا الموضع كان مبلغهم من العلم، و إلى هاهنا أدّاهم اجتهادهم. و
لهم أيضا في كيفية حدوث العالم كلام و أقاويل يطول شرحها، إلّا أنها مذكورة في
كتبهم، فلذلك تركناها إذ لا فائدة في بيان ذلك.
فأما القائلون بأن أحد الأصلين فاعل، و الآخر منفعل، فإنما دعاهم إلى
هذا الرأي ما رأوا أنه يلزم القائلين بالفاعلين من الشّنعة و القبح، و ما يوجب
لهما من العجز و النّقص من فعالهما و تناقضهما، و ما يقتضي دون ذلك من قلّة النظام
في تركيب العالم و خلق السماوات، و ما يعرض من الفساد