و إذ قد تبيّن بما ذكرنا بطلان قول القائلين
بقدم العالم، نريد أن نذكر طرفا من أقاويل القائلين بحدوثه و فنون مذاهبهم، و
اختلاف طبقاتهم، و الأسباب المؤدّية لهم إليها، و في ما ذا أصابوا، و فيما ذا
أخطئوا.
فصل في بيان العلة الداعية إلى القول بحدوث العالم عن علة واحدة
فنقول: اعلم أن القائلين بحدوث العالم طائفتان: إحداهما تعتقد أن
العالم محدث مصنوع و له علّة واحدة مبدعة مخترعة و هو حيّ قادر حكيم، و هذا رأي
الأنبياء، :، و أتباعهم، و بعض القدماء الموحّدين و الحكماء منهم. و
الأخرى ترى و تعتقد أن العالم محدث مصنوع، و لكن ترى و تعتقد أن له علّتين اثنتين
قديمتين أزليّتين، و هذا الخلاف من إحدى أمّهات الآراء و المذاهب المتفرّعة بها، و
نحتاج أن نذكر الاعتبار و القياس الذي أدّاهم إلى هذا الرأي و الاعتقاد كيف كان
فنقول:
اعلم أن السبب في ذلك هو نظرهم إلى الشرور التي تجري في عالم الكون و
الفساد الذي هو دون فلك القمر، و ذلك أنهم رأوا من القبيح الشنيع أن يكون صانع
العالم واحدا، ثم يترك عالمه مملوءا من الشرور و الفساد، و لا يمنع من ذلك و لا
يغيره، و إن كان لا يقدر عليه فقد وجب علة أخرى، لأن الشرور أفعال، و الفعل لا
يكون إلّا من فاعل و منفعل. هذا كان نظرهم، و إلى هاهنا كان مبلغهم من العلم، و
إلى هذا أدّاهم اجتهادهم في البحث و التمييز و القياس.
و هذه المسألة، أعني طلب علّة كون الشرور في العالم، هو من إحدى
أمهات أسباب الخلاف من العلماء في الآراء و المذاهب، و ذلك أنه منذ كان الناس في