ثم اعلم أن الهيولى و حقيقتها هو جوهر ساذج،
لا كيفيّة له، و لا النقش، و لا الصورة، و لا الأشكال، و لا الأصباغ، و لا
الأعراض، بل هو متهيّئ لقبولها، و لا يقبلها إلّا بقصد قاصد و جعل جاعل. مثال ذلك
الخشب فإنه متهيئ لقبول صورة الألواح، و السرير و الكرسي و الباب و غيرها، و لكن
بقصد من النجّار و عناية منه. و هكذا قطعة من حديد فإنها لا تقبل الصورة إلّا بعد
قصد قاصد من الحدّاد، و كذلك سائر الهيوليّات الموضوعة في سائر الصنائع البشرية. و
هكذا أيضا الهيولى الطبيعية التي هي الأركان الأربعة التي لا تجمع، و لا يكون منها
المعدن و النبات و الحيوان إلّا بقسر قاسر أو صنع صانع. و العلة الفاعلة لها هي
قوّة من قوى النفس الكليّة الفلكيّة بإذن اللّه تعالى.
و هكذا الجسم المطلق الذي هو جوهر طويل عريض عميق حسب، لا يصبر على
الأشكال كريّات مدوّرات بعضها ببعض، و بعضها كواكب صغار و كبار، و بعضها أركان
مختلفة الطبائع من الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة، و خفيف و ثقيل، و لطيف
و غليظ؛ و بعضها متحرّك، و بعضها ساكن، و بعضها أسرع حركة، و بعضها أبطأ حركة، و
ما شاكل هذه الحالات التي هي موجودة عليها إلّا بقصد قاصد و جعل جاعل، و هو اللّه
العزيز الغفار الواحد القهار تعالى و تقدّس.
و كفى بهذا دليلا و بيانا و حجّة للعقول الغريزية على أن العالم
مصنوع، و المصنوع يقتضي الصانع، و هذه قضيّة موجبة في أوائل العقول، بيّنة ظاهرة
جليّة لا تخفى على كل عاقل متأمّل، سليم القلب و العقل من الآفات العارضة، و إن لم
يعلم من عمله، و متى عمله، و كيف عمله، و لم عمله.
فأما النظر في أمر الهيولى و الدليل و الحجّة على حدوثه، فيحتاج إلى
نظر أدق من هذا، و بحث أشدّ، و تأمّل أجود، و تمييز ألطف، كما بيّنّا في رسالة
المبادي العقليّة.