فصل في بيان مناقب العقلاء و الآفات
العارضة للعقول
فنقول: اعلم أن هؤلاء القوم لم يرتابوا و لم يضلّوا من قلة العقل، و
لا رداءة التمييز، و لا من ترك النظر، و لكن من الآفات العارضة للعقول، و ذلك أن
العقل، و إن كانت له مناقب كثيرة، فإن له أيضا آفات كثيرة تعرض لها، و قد ذكرنا
طرفا منها في رسالة الأخلاق، و لكن لا بد أن نذكر في هذا الفصل طرفا منها فنقول:
أولا ما العقل الإنساني؟ و ذلك أن العقل الإنساني ليس هو شيئا سوى النفس الناطقة،
إذا هو كبر و شاخ بعد أيام الصبا، و ذلك أن النفس يوم ربطت بالجسد، أعني الجنين في
الرّحم، كانت ساذجة، لا علم لها من العلوم، و لا خلق من الأخلاق، و لا رأي و لا
مذهب، و لا تدبير و لا سياسة، و لا رياضة في أدب، كما ذكر اللّه تعالى: «وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا
تَعْلَمُونَ شَيْئاً» و إنما كانت جوهرة روحانيّة حيّة
بالذات، علّامة بالقوّة، فعّالة بالطبع. فإذا حصلت فيها رسوم المحسوسات التي تسمّى
أنواعا و أجناسا مصوّرة بعد غيبة المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، فميزتها و
تأملتها و نظرت فيها و عرفت أعيانها و منافعها و مضارّها، و جربتها و اعتبرتها، سمّيت
عند ذلك عاقلة علّامة بالفعل، كما بيّنّا في رسالة الحاس و المحسوس.
فأما مناقب العقل و أفعاله فكثيرة لا يحصي عددها إلّا اللّه الواحد
القهار، و قد ذكرنا طرفا في رسالة العقليات و شرحا، و لكن نريد أن نشير إليها في
هذا الفصل إشارة فنقول: إن جميع الأفعال البشرية المحكمة، و جميع الآراء و المذاهب
المختلفة العقلية و الوضعية، من أفعال العقل الإنساني، لكن له، مع هذه الفضائل و
المناقب كلها، آفات عارضة كثيرة، فمن تلك الآفات الهوى الغالب نحو شيء ما، و
العجب المفرط من المرء برأي نفسه، و الكبر