ثم اعلم أن كل ناظر في مصنوع، متأمّل له،
يطلب بتأمّله و فكره أربع علل: من عمل؟ و متى عمل؟ و كيف عمل؟ و لم عمل؟ فإنما
يطلب هذه المباحث لأنه يرى و يعاين بأول نظرة في ذلك المصنوع أشياء ثلاثة ظاهرة
جليّة من أثر الصّنعة لا تخفى على كل عاقل سليم العقل من الآفات العارضة للعقول، و
هي الثلاثة المخصوصة، و الشكل و النقش و التصاوير و الأصباغ و ما شاكلها، فلو لا
أن هؤلاء الذين زعموا و قالوا بقدم العالم قد رأوا هذه الأشياء بنظرهم إلى هذا
العالم، و بتأمّلهم بنيته و شكله و ما فيه من أنواع التصاوير و النقوش و الأصباغ،
لما طلبوا الفاعل له و لا بحثوا عنه كيف عمل؟ و متى عمل؟ و من أي شيء عمل؟ و لم
عمل؟ و أيضا لو أنهم حين لم يعرفوا هذه العلل و لم يفهموا، رجعوا إلى قول من هو
أعلم منهم و أعرف بماهيّاتها و حقائقها، و أقروا على أنفسهم بالعجز، لما قالوا هذا
القول، و لا اعتقدوا هذا الاعتقاد، و لكنهم لإعجابهم بأنفسهم و اتّكالهم على بحثهم
و دقّة نظرهم، دعاهم إلى القول بقدم العالم. و ذلك أنهم تكلفوا ما لم يطيقوا، و
تعاطوا ما لم يكن من صناعتهم، فوقعوا فيها و تحيّروا فيه، و أصابهم ما أصاب القرد
من النجّار.
فهذا الباب من اختلاف الناس، و أعظمها بليّة أن يتعاطى الصناعة من
ليس من أهلها.