تخفى عليه خافية، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة،
و إن له ملائكة هم خالص عباده، و صفوة بريّته، نصبهم لحفظ عالمه، و وكّلهم بتدبير
خلائقه، لا يعصونه طرفة عين مما نهاهم عنه، و يفعلون ما يؤمرون. و إن له خواصّ من
بني آدم اصطفاهم و قرّبهم، و جعلهم وسائط بين الملائكة و بين خلقه من الجنّ و الإنس،
و سفراء له؛ و إنه أمر عباده بأشياء، إذا فعلوها، فهو خير لهم و أنفع للجميع. و
نهاهم عن أشياء، إن لم ينتهوا عنها، صرفهم عن الأنفع، وفاتهم الأفضل. و إنه لم
يأمرهم شيئا لا يطيقونه، و لا يفعلون شيئا مما هو لا يعلمه، و إنهم قاصدون نحوه،
متوجّهون إليه منذ يوم خلقهم ينقلهم حالا بعد حال، من الأنقص إلى الأتمّ، و من
الأدون إلى الأكمل، و من الأدنى إلى الأفضل، إلى يوم يلقونه و يشاهدونه فيوفّيهم
حسابه.
ثم اعلم أنه ليس إلى معرفة هذا الرأي سبيل، و إلى هذا الذي ذكرنا، و
حقيقة ما وصفنا، طريق إلّا شيئان اثنان: أحدهما الاستبصار و المشاهدة بعين البصيرة
و اليقين، بالقلب الصّافي من الشوائب للنفس الزكيّة النقيّة من الذنب، بعد تأمّل
شديد للمحسوسات، و دقّة نظر في المعقولات، و دراية بالرياضيات، و بحث عن القياسات،
كما فعلت القدماء الحكماء الموحّدون الرّبّانيون؛ و إقرار باللسان، و إيمان
بالقلب، و تسليم بالقول كإقرار الملائكة بها إلهاما و تأييدا، و كإقرار الأنبياء
للملائكة وحيا و إنباء، أو كإقرار المؤمنين للأنبياء إيمانا و تسليما، و كإقرار
العامّة و الأتباع للخواصّ و العلماء تقليدا و قولا، أو كإقرار الصّبيان للآباء و
المعلمين تعليما و تلقينا. فهذا الذي ذكرناه هو أحد أركان الدين و هو الاعتقاد
الصحيح. و أما الرّكن الآخر الذي هو الطاعة فهو الانقياد من المأمورين و المرءوسين
للآمرين الناهين.
ثم اعلم أن الأوامر و النواهي تختلف بحسب مراتب الآمرين و المأمورين
في أحوالهم. فمن ذلك طاعة الأولاد للآباء و الأمّهات فيما يأمرونهم به مما فيه