التي يعلمها الإنسان ثلاثة أنواع: ماض و
مستقبل و حاضر، فعلمه بما هو حاضر في الوقت موجود في طريقة إحدى الحواس، و الحواس
قد تخطئ و تصيب في إدراكاتها محسوساتها لعلل شتى قد بيّنا طرفا فيما قد تقدم ذكره.
و علمه بما كان من الأمور و مضى مع الزمان و انقضى مع الأيام أو غاب
عنه بالمكان فهو بطريق السمع و الاخبار، و المخبر قد يكون صدوقا و قد يكون كذوبا،
و هكذا أيضا ربّ مستمع مكذب بالصدق، و رب مستمع مصدق بالكذب. فأما علمه بما سيكون
أر غائب عنه بالمكان فقد يكون بعضا بالقياس، و القياس قد يكون صحيحا و قد يكون
سقيما.
و هكذا المستعمل للقياس قد يكون جاهلا باستعماله كما بيّنا في قياس
الصبيان و الجهّال و العوام و كثير من الخواص. و هذا أيضا أحد أسباب اختلاف
العلماء في الآراء و المذاهب.
ثم اعلم أنك إذا اعتبرت و دققت النظر تبين أن أكثر علم الإنسان إنما
هو بطريق القياس، و القياسات مختلفة الأنواع كثيرة الفنون كل ذلك بحسب أصول
الصنائع و العلوم و قوانينها.
مثال ذلك أن قياسات الفقهاء لا تشبه قياسات الأطباء، و لا قياس
المنجمين يشبه قياس النحويين و لا المتكلمين، و لا قياسات المتفلسفين تشبه قياسات
الجدليين، و هكذا قياسات المنطقيين في الرياضات لا تشبه قياسات الجدليين و لا تشبه
قياساتهم في الطبيعيات و لا في القياسات و الإلهيات.
و هكذا الحكم في سائر الصنائع و العلوم. و سنذكر طرفا من ذلك في
موضعه و لكن نقول أول ما القياس؟ و ذلك أن القياس هو الحكم على الأمور الكليات
الغائبات بصفات قد أدركت جميعها في بعض جزئياتها.
مثال ذلك: لما أدرك الإنسان أن النيران الجزئية حارة حكم بأن كل نار
حارة أيضا الغائبة قياسا على ما أدرك حسّا و هكذا حكم على رطوبة الماء من جزئياتها
على كلياتها بالحسن جزئية و العقل كليّا.