ثم اعلم أن الأصل في هذه الصناعة المتفق عليها بين أهلها هو معرفة
الدعاوي و السؤالات و الجوابات و الدليل. فأما كيفيّة السؤالات و أجوبتها و
الاستدلالات بالشاهد على الغائب، و بالظاهر على الباطن، و بالمحسوسات على
المعقولات، و الحكم على الكل باستقراء الأجزاء في أي شيء يجوز، و في أي شيء لا
يجوز، و كيف اطّراد العلّة في معلولاتها، و كيفية قياس الفروع على الأصول، و
معراضة الدعوى بالدعوى، و الدليل بالدليل، و قلب المسألة على الأصل، و مناقضة
أصلها لفروعها، و مقايسة الأصل بالأصل، و الفرع بالفرع، و لوازم الشناعات و ما
يعرض فيها و في معرفتها لأهلها من الانقطاع و الشكوك و الحيرة، فهم فيها متفاوتو
الدرجات، كلّ ذلك بحسب قوى نفوسهم، و جودة ذكائهم، و دقة نظرهم و بحثهم و مكابرتهم
و وقاحتهم و شغبهم.
ثم اعلم أنه ليس من صناعة و لا علم و لا أدب يعرض لأهله فيها، من
الحيرة و الدهشة و الشكوك و الظنون و الخطإ و العدوان و البغضاء بينهم، ما يعرض
لأهل صناعة الجدل فيما يعتقدون فيها و يجادلون عنها. و العلة في ذلك أسباب شتى:
منها أن جميع الصنائع و العلوم و المذاهب و الآراء موضوعة لهم يتكلمون عليها، و
يعارضون فيها، و يجادلون عنها، قبل النظر و البحث عنها و العلم فيها. و علّة أخرى
أنه يمكن أن يداخلهم في صناعتهم من ليس منهم بالسؤال لهم و المعارضة في دعاويهم و
المناقضة لأجوبتهم، لأن السؤال أسهل من الجواب، و المعارضة دعوى تحاذي دعوى، و
المناقضة أسهل من إثبات الحجة لأنها إفساد، و الإفساد أسهل من الإصلاح في أكثر
الأشياء. و خصلة أخرى أنهم ربما يكونون مقلّدين في أصول ما يجادلون فيه من المذاهب
فيبصرون الفروع، و من يكون في الأصل على التقليد كيف يمكنه أن يبصر الفروع على
تبصرة. و خصلة أخرى أن أكثرهم ربما جادل فيصر على الرأي