المجسطي[1]
على هيئة الأفلاك في تركيبها، هي بعد النظر في علم المناظر و معرفة الأبعاد و
الأجرام، و علم المناظر بعد علم الهندسة و النظر في كتاب أقليدس. و على هذا المثال
أوائل كل صنعة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها، و إن علم البرهان بعد المعقولات و
المحسوسات.
و اعلم أن كل صناعة مأخوذة من صناعة أخرى كما تقدّم ذكره، و أن أهل
كل صناعة أو علم أو مذهب هم بصناعتهم و أصولها و فروعها أعلم و أعرف من غيرهم، و
إنما ذلك لتعلمهم لها و دربتهم فيها و طول تجاربهم إياها. فأما سبب اختلافهم في
فروعها فهو من أجل تفاضلهم فيها، و أن المتعلم المبتدي بها لا يمكنه أن يسأل
الفاضل الكامل فيها و يعارضه و يطالبه بالدليل و الحجّة، و يناقضه من غير بصيرة و
لا بيان، و هذه البلية العظمى في الصنائع و العلوم، و المحنة على أهلها الفاضلين
فيها، و لكن من أشد بلية على الصناعة، و أعظم محنة على أهلها، هو أن يتكلم عليها
من ليس من أهلها، و يحكم في فروعها و لا يعرف أصلها، فيسمع منه قوله و يقبل منه
حكمه. و هذا الباب من أجلّ أسباب الخلاف الذي وقع بين الناس في آرائهم و مذاهبهم،
و ذلك أن قوما من القصّاص و أهل الجدل يتصدرون في المجالس و يتكلمون في الآراء و
المذاهب، و يناقضون بعضها بعضا، و هم غير عالمين بماهيتها، فضلا عن معرفتهم
بحقائقها و أحكامها و حدودها، فيسمع قولهم العوامّ و يحكمون بأحكامهم، فيضلّون و
يضلّون و هم لا يشعرون.
و اعلم أن الجدل هو أيضا صناعة من الصنائع، و لكن الغرض منها ليس هو
إلا غلبة الخصم و الظفر به كيف كان، و لذلك يقال: الجدل فتل الخصم عما هو عليه،
إما بحجة أو شبهة أو شعبة و هو الثقافة في الحرب، و الحرب كما قيل خدعة، و هو يشبه
الحرب و المعركة إذ الحرب خدعة.
[1] -المجسطي: كتاب في علم الفلك لبطليموس العالم
اليوناني.