كلّ ذلك بحسب تفاوتهم في قوى نفوسهم، و جودة
بحثهم، و دقّة نظرهم، و حسن تأمّلهم، و كثرة اعتبارهم.
و هكذا أيضا صناعة الهندسة فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها، و
معرفتهم بالمقادير الثلاثة التي هي الخط و السطح و الجسم، و الأبعاد الثلاثة التي
هي الطول و العرض و العمق و ما يعرض فيها من الزوايا و الأشكال و الأوضاع و ما
شاكلها، فإن هذه الأشياء كلها كانت في أوائل عقولهم و ان كانت عند غيرهم بخلاف
ذلك.
فأما أنواع هذه الأصول و خواصّ تلك الأنواع، و ما يعرض فيها من
المناسبات العجيبة و ما ينتج عنها من المباحث الدقيقة، فهم فيها متفاوتو الدرجات
بحسب تفاوت قوى نفوسهم فيها، و جودة بحثهم عنها، و دقة نظرهم فيها، و شدة تأملهم
لها.
و هكذا أيضا حكم صناعة التنجيم الذي يسمّى علم الهيئة فإن الأصل
المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بأن السماء كريّة الشكل، و أن الأرض كرية أيضا،
موضوعة في وسط السماء، و أن المركز واحد مشترك بها، و أن الأرض ثابتة و السماء
متحركة حولها على استدارة كدورة الدولاب في كل يوم و ليلة دورة تامة.
و تركيب الأفلاك التسعة، و تخطيط الدوائر العظام، و قسمة البروج
الاثني عشر، و الكواكب السبعة السيارة و الثابتة الباقية، و كيف تكون الأرض في
مركز العالم، فإن هذه الأشياء كلها كأنها في أوائل عقولهم إما تسليما أو استبصارا
أو برهانا، و إن كان عند غيرهم بخلاف ذلك. فإن هذه الأشياء أوائل في هذه الصنعة
لتقرّرها و اتفاق أهلها عليها، سواء كانوا في اعتقاد صحتها مقلدين لغيرهم، مسلّمين
لهم، أو مستبصرين في ذلك يعلمونه ببراهين، و ان كان عند غيرهم بخلاف ذلك.
و أما معرفتهم بكيفية تركيب أفلاك التداوير و الأفلاك الخارجة
المراكز،