و منهم من يرى أن هذه موجبات أحكام الفلك من
غير قصد قاصد و لا صنع صانع. و منهم من يرى أن هذا إنما يفعل بهم ليجازوا به و
يثابوا عليه.
و منهم من يرى أن هذه الحال أصلح لهم و أنفع من غيرها. و منهم من يرى
أن هذا كان في سابق العلم و القدر المحتوم لم يكن بد من كونه. و منهم من يرى أنه
إظهار القدرة و تحكّم في الملك و إنفاذ المشيئة. و منهم من يرى أن هذه موعظة و
وعيد و تهديد و تخويف لغيرهم. و منهم من يرى أن هذا هو الأحكم و الأتقن، و إن كان
لا يدري ما وجه الحكمة في ذلك، فليس إلّا الإيمان و التسليم و الصبر و الرضا بما
يجري به القضاء و المقادير، كما قال تعالى:
«لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» و قال: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ» و إنما ذكرنا في شرح هذا الباب لأن هذا البحث و النظر من إحدى أمهات
الخلاف بين العلماء، المتفرّع منها فنون الآراء و المذاهب، و هي محنة لعقول ذوي
الألباب، و رجحان عقل كل صاحب مذهب يتبيّن فيه و يعرف منه في نصرته لدينه بحجج
متقنة، و مساعدة لأهل مذهبه مما يتعلق به، و حسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكن
معتقدا للرأيين المتناقضين، فإنه عند ذلك يكون مخالفا لنفسه في مذهبه، و مناقضا
لمذهبه باعتقاده، و هذا من أكبر العيوب عند العقلاء و من أشنع اعتقادهم عند
العلماء.
ثم اعلم أنه ليس على العقلاء كثير عيب في مخالفة بعضهم بعضا، لأن ذلك
من أجل تفاوت درجاتهم كما ذكرنا قبل. و أما مخالفة الإنسان الواحد في نفسه في رأيه
و مذهبه، فإنه يدلّ على قلّة التحصيل، و رداءة التمييز، و سخف الرأي التي بأضدادها
يفتخر العقلاء بعضهم على بعض. و خصلة أخرى في عذر العقلاء فيما يختلفون في الفروع،
و ذلك أنه عسر جدّا اجتماع العقلاء على رأي واحد كلهم في شيء واحد. و إنما يتفقون
في الأصول و يختلفون في الفروع.
فأما إنسان واحد فليس يعسر أن يعتقد في شيء رأيا واحدا، و أن لا
يعتقد رأيين متناقضين. و إذ قد تبيّن مما ذكرنا طرف من كيفيّة رجحان عقول