و يتأدب و يرتاض؛ فإذا تعلم و أحكم ذلك،
فليس حال أخرى إلّا الخروج من المكتب و الانتفاع بما حصّل في المكتب، لأنه قد تم
ما يراد منه و بقي الإكرام و المجازاة. فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا أحكمت ما
يراد منها بكونها معه. فليس من طريقة إلا المفارقة. و كما أن الصبي إذا أحكم ما
يراد منه في المكتب، استغنى عن حمل اللوح و الدواة و المداد و القلم و سواده، لأنه
كان يكتسب به و يقرأ منه و يمحو ليحصّل العلم في نفسه محفوظا من القرآن و الأخبار
و الأشعار و النحو و اللغة و ما شاكلها مما يحفظ الصبيان في المكتب، فهكذا حكم
النفس مع الجسد إذا هي أحكمت أمر المحسوسات بطريق الحواس، و أمر المعقولات بطريق
الفكر و الروية، و عرفت حقائق أمور هذا العالم من الكون و الفساد، و ارتقت بعد ذلك
بطريق الرياضيات التي هي البراهين إلى معرفة الأمور الغائبة عن الحواسّ، و ارتاضت
فيها و عرفتها حق معرفتها، و استبان لها أمر عالمها و مبدئها و معادها، و عاينت
بعين البصيرة أحوال أبناء جنسها من السابقين الذين مضوا على سنن الهدى، و ارتقوا
إلى ملكوت السماء و فسحة الأفلاك و سعتها، اشتاقت هي عند ذلك الصعود إلى هناك و
اللحاق بأبناء جنسها، و لا يمكنها ذلك بهذا الجسد الثقيل إلا بتركها و مفارقتها
إياه، و هو الموت، فلو لم يكن الموت لكانت ممنوعة من الوصول إلى هناك، فإذا الموت
حكمة و نعمة و رحمة و فضل و رضوان من اللّه، عزّ و جلّ، للنفوس المخيّرة
المستبصرة.