يعني الموت بعد مفارقة الجسد. و قال: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ»
فإذا الموت حكمة، إذ لا رجوع لها إلى ربها الرحمن الرحيم إلا بعد الموت، و لا وصول
للنفس إلى ما وعد اللّه و رسوله إلّا بعد مفارقتها الجسد:
«يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً
مَرْضِيَّةً» فإذا الموت حكمة و منّة من اللّه تعالى على
عباده، بل بالموت سبب بقاء الحياة الجسدانية و سبب فناء الجسد.
فصل في حكمة الموت
اعلم بأن لكل كون و نشوء أولا و ابتداء، و له غاية و نهاية إليها
يرتقى، و لغايتها ثمرة تجتنى، فمسقط النّطفة كون قد ابتدئ، و غايته الولادة التي
إليها المنتهى. و الولادة أيضا كون قد ابتدئ، و الموت غايته التي إليها المنتهى. و
كما أن ثمرة مسقط النّطفة لا تكون إلا بعد الولادة، لأن الطفل لا يتمتع إلا بعد
الولادة، فهكذا النفس لا تتمتع إلّا بعد مفارقة الجسد، لأن موت الجسد ولادة النفس
و هي الروح. و ذلك أن موت الجسد ليس شيئا سوى مفارقة النفس له، كما أن ولادة
الجنين ليست شيئا سوى مفارقة الرّحم، فإذا الموت حكمة كما أن الولادة حكمة. و كما
أن الجنين إذا تمّت في الرحم صورته، و كملت هناك خلقته، لم ينتفع في الرحم بل
ينتفع بعد الولادة في الحياة الدنيا، كذلك النفس إذا كملت صورتها و تمت فضائلها
بكونها مع الجسد، انتفعت بعد مفارقتها الجسد في الحياة الآخرة. فإذا الموت حكمة،
إذ البقاء الأبدي لا يتيسّر إلّا بعد حصول الموت، فالموت سبب لحياة الأبد، و
الحياة الدنيا سبب للموت في الحقيقة، إذ الإنسان ما لم يدخل في هذا العالم لا يمكن
له أن يموت، فإذا وجد الإنسان فتكون حياته سببا لموته، و موته سببا لحياته الباقية
أبد الآبدين.
و اعلم يا أخي أن مثل النفس مع الجسد كمثل الصبي في المكتب ليتعلم