فتفقد يا أخي هذا الباب و اعتبر فإنه أول
طريق العلوم، و أول الاختلافات التي وقعت بين الناس في المدركات من المحسوسات و
المتخيّلات.
و إذ قد ذكرنا طرفا من أسباب الاختلافات التي وقعت بين الناس في
المدركات من المحسوسات و المتخيّلات أجمع، فنريد أن نذكر طرفا من أسباب الاختلافات
التي وقعت بين العقلاء في الأشياء التي تعلم بأوائل العقول، إذ كان هذا الباب تالي
المحسوسات في النظام و الترتيب، و ذلك أن المعقولات التي هي في أوائل العقول ليست
شيئا سوى رسوم المحسوسات الجزئيّات الملتقطة بطريق الحواسّ من الأشخاص المجتمعة في
فكر النفس المسمّى أنواعا و أجناسا، كما بيّنّا في رسالة القاطيغورياس.
ثم اعلم أن العقلاء متفاوتو الدرجات في معرفتهم هذه الأشياء، التي
تعلم بأوائل العقول، تفاوتا بعيدا جدّا. و الدليل على ذلك بما قلنا انك تجد كل
إنسان يكون أكثر تأمّلا في المحسوسات، و أجود اعتبارا للمتخيلات، فإن الأشياء التي
تعلم بأوائل العقول تكون في نفسه أكثر عددا و أشدّ تحقيقا من غيره من الناس مثل
المشايخ و المجرّبين للأمور المحسوسة. و الدليل على ذلك قوله تعالى: «وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا
تَعْلَمُونَ شَيْئاً» و قال:
«عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» و
قال: «وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ» و قال: «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ» و قال: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ».