أشرف الحواسّ، و أجلّ القوى الدرّاكة، هذا القدر،
فما ظنّك يا أخي دونها من سائر الحواس و القوى الدرّاكة على هذا المثال؟
فصل في بيان الحواس التي لا تخطئ في إدراكاتها المدركات التي هي
لها بالذات
فنقول: اعلم أن لكل حاسة مدركات بالذات، و مدركات بالعرض، و هي لا
تخطئ في مدركاتها التي لها بالذات، و إنما يدخل عليها الخطأ و الزّلل في المدركات
التي لها بالعرض. مثال ذلك البصر فإن الذي له من المدركات بالذات هي الأنوار و
الظلمة، و هي التي لا تخطئ في إدراكها في جميع الأوقات البتّة. فأما إدراكها
الألوان و الأشكال و الأوضاع و الأبعاد و الحركات و ما شاكلها، فهي تدركها بتوسط
النور و الضّياء على الشرائط التي ذكرناها. و قد يدخل عليها الخطأ و الزلل في ذلك،
إذا نقصت الشرائط التي تحتاج إليها.
و على هذا القياس يجري حكم سائر الحواسّ و محسوساتها، فتعقّل يا أخي
في هذا الباب، فإن الذين دفعوا حقائق الأشياء و كيفيّاتها و النظر فيها، و
أنكروها، من هذا الباب أتوا.
أما القوة السامعة التي لها بالذات هي بالأصوات و النغمات حسب، و
التي للذائقة هي الطعوم حسب، و التي للشامّة هي الروائح حسب، و التي للّامسة فهي
عدة أشياء قد ذكرناها في رسالة الحاسّ و المحسوس، فاعرفها من هناك.
ثم اعلم أن لكل قوة من هذه الحواس الخمس خاصّيّة ليست للأخرى، و لكن
الخاصيّة التي تعمها هي أنها لا تخطئ في مدركاتها، إذا تمت شرائطها، و لم يعرض لها
عائق، و خاصّة أخرى أنها لا تدرك كل واحدة منها محسوسات