ثم اعلم أن الناس متفاوتون في الدرجات في
هذه القوى بين الجودة و الرداءة في إدراكهم المعلومات، تفاوتا بعيدا، و هي أحد
أسباب اختلافهم في الآراء و المذاهب، و ذلك أن من الناس من يكون حادّ البصر يرى
الأشياء الصغيرة البعيدة، و منهم من يكون دون ذلك، و منهم من لا يبصر شيئا البتّة.
و هكذا تجد حالهم في القوة السامعة؛ و ذلك أن منهم من يكون جيّد
السمع يسمع الأصوات الخفيّة، و يميّز بين النغمات الموزونة و المنزحفة، و منهم من
يحتاج في ذلك إلى مفاعيل العروض، و منهم من لا يحس بشيء من ذلك.
و على هذا القياس يكون حكمهم في سائر قوى حواسّهم من الذوق و اللمس و
الشمّ، و هكذا حكمهم في ذكاء نفوسهم، و جودة قرائحهم، و صفاء أذهانهم، و ذلك أنك
تجد كثيرا من الناس من يكون جيّد التخيّل، دقيق التمييز، سريع التصوّر، ذكورا
حفوظا، و منهم من يكون بليدا بطيء الذّهن، أعمى القلب، ساهي النفس، فهذا أيضا أحد
أسباب اختلاف العلماء في الآراء و المذاهب، لأنه إذا اختلفت إدراكاتهم اختلفت
آراؤهم و اعتقاداتهم بحسب ذلك.
فصل في بيان علة اختلاف إدراك القوى العلامة
فنقول: اعلم أن هذه التفاوتات التي ذكرنا من هذه القوى الدرّاكة
العلّامة ليست هي من أجل أنها مختلفة في ذواتها بين الجودة و الرداءة، و لكن من
أجل اختلاف أحوالها في إدراكها صور المعلومات، و أن علة اختلاف أفعالها هو من أجل
اختلاف أدواتها و اختلاف آلاتها في الجودة و الرداءة. و ذلك أنه لما كان كل عضو من
الجسد هو آلة و أداة لقوّة من قوى النفس، و كانت أعضاء