تعالى حيّ، قادر، عالم، حكيم، خالق، لا يوصف
بالقيام و لا بالقعود، و لا الدخول و لا الخروج، و لا الحركة و لا السكون، و ما
شاكل ذلك من الأوصاف مما يوصف بها النفس و العقل الفعّال، و الصور المجردة من
الهيولى، و ما شاكلها من الجواهر البسيطة المسمّين الملائكة و الرّوحانيين. و ذلك
أن الحواسّ لا تدركها و لا تتصوّرها الأوهام بوجه من الوجوه و لا سبب من الأسباب.
فأما أوصاف الجاهلين بالله فهي أنهم يصفون اللّه تعالى بصفات
المخلوقين بعد أن نزّه اللّه تعالى نفسه عن ذلك بقوله:
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ». فقد تبيّن إذن مما ذكرنا أن الأمور المبرهنة التي لا تدركها الحواس
و لا تصوّرها الأوهام، و لكن البرهان الضروري و الحجة القاطعة يضطران العقول إلى
الإقرار بها مقرّرة.
ثم اعلم أن البراهين هي ميزان العقول، كما أن الكيل و الذّرع و
الشاهين موازين الحواسّ، و كما أن الناس إذا اختلفوا في حزر شيء و تخمينه من
الأشياء المحسوسة، رجعوا إلى حكم الكيل و الذّرع، و رضوا بها، و ارتفع الخلف من
بينهم، فهكذا العقلاء الذين يعرفون البراهين الضّرورية، إذا اختلفوا في حكم شيء
من الأشياء التي لا تدرك بالحواس، و لا تتصوّر بالأوهام، رجعوا عند ذلك إلى دليل و
برهان، و ما ينتج من المقدمات الضرورية، و أقروا بها، و قبلوها، و إن كانت لا
تدركها الحواس، و لا تتصوّرها الأوهام، لأنهم يرون الإقرار بالحق أولى من التمادي
في الباطل.
و قد تبين مما ذكرنا أن الأمور المختلفة فيها ثلاثة أجناس حسب، التي
هي المحسوسة أو المعقولة أو المبرهنة. و نريد أن نذكر الآن كمّيّة أسباب اختلاف
الناس في إدراكهم من كم وجه يكون.