بد من ذكرها مقدّمات ينتج عنها ما نريد أن
نبيّن من هذه العلل و الأسرار فنقول:
إن العلماء الراسخين و الحكماء الرّبّانيين قالوا إن اللّه تعالى،
لما أبدع الموجودات، و اخترع المخلوقات، رتّبها مراتب الأعداد المتواليات، و
نظّمها نظاما واحدا يتلو بعضها بعضا في الموجودات إلى الأعداد المتناسبات، إذ كان
ذلك أحكم و أتقن. كما بيّنّا في رسالة المبادي العقلية.
و أما فعل الباري تعالى فحسب ما ذكرنا؛ و ذلك أنه جعل كلّ جنس من
الموجودات على أعداد مخصوصة مطابقة بعضها لبعض، إما بالكميّة و إما بالكيفيّة،
ليكون ذلك دليلا للعلماء و بيانا للعقلاء، إذا بحثوا عنها، و اعتبروا، و استدلّوا
بشاهدها الجليّ على غائبها الخفيّ، فيبين لهم و يعلموا أنها كلّها من صنع بارئ
حكيم. فيزدادون بذلك بصيرة و يقينا، و إلى لقاء اللّه تعالى اشتياقا، و يعبدون
ربّهم ليلا و نهارا.
ثم اعلم أن من الأشياء الموجودة ما هي على أعداد مخصوصة، و منها ما
هي في البروج و الأفلاك، و منها ما هي في الأركان و الأمّهات، و منها ما هي في
خلقة النبات، و منها ما هي في تركيب جثّة الحيوانات، و منها ما هي في سنن الشرائع
من المفروضات، و منها ما هي في الخطاب و المحاورات. فمن ذلك أن اللّه تعالى أنزل
القرآن بلغة فصيحة هي أفصح اللغات، و جعل هذا الكتاب مهيمنا على كل كتاب أنزله
قبله، و جعل هذه الشريعة أتمّ الشرائع و أكملها، و حكّم في سنن المفروضات أمورا
مثنويّات و مثلّثات و مربّعات و مخمّسات و مسدّسات و مسبّعات و مثمّنات، و ما زاد
بالغا ما بلغ، ليكون إذا تأمّل أولو الألباب، و تفكّر فيها أولو الأبصار، و
اعتبروا فيها، وجدوا في سنتها و أحكامها أمورا معدودة مطابقة لأمور من الرياضيات و
الطبيعيات و الإلهيّات، و يتعلمون و يتيقنون أن هذا الكتاب هو من عند الصانع
الحكيم