ما العلة في اختلاف لغات الناس و ألوانهم و أخلاقهم و صورهم، و كلّهم
أبوهم واحد؟ فنقول: اختلاف أماكن أبدانهم و ألوانهم، و اختلاف تربها، و تغيّرات
أهويتها و طوالع البروج عليها، و مسامتات الكواكب، و فنون آرائهم، مع كثرة العداوة
منهم في ذلك، لكيما يدعوهم إلى استخراج فنون العلم، و الاجتهاد في تهذيب النفس، أو
الانتباه من نوم الغفلة، و الخروج من ظلمات الجهالة، و البلوغ إلى التمام و
الكمال، و البقاء على أتم الأحوال ما أمكن و استوى. و أيضا لما حكم على نفوس
الحيوانات كلّها بالموت، لتنتقل إلى حالة هي أتمّ و أكمل و أفضل.
فصل
ثم اعلم أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولا عن
علل الموجودات و أسباب المخلوقات، و أن يكون له قلب فارغ من الهموم و الغموم و
الأمور الدنيوية، و نفس زكيّة طاهرة من الأخلاق الرديّة، و صدر سليم من الاعتقادات
الفاسدة، و يكون غير متعصّب لمذهب أو على مذهب، لأن العصبية هي الهوى، و الهوى
يعمي عين العقل، و ينهى عن إدراك الحقائق، و يعمي النفس البصيرة عن تصوّر الأشياء
بحقائقها، فيصدّها ذلك عن الهوى، و يعدل عن طريق الصواب.
و نحن نريد أن نبحث في هذه الرسالة عن علل الموجودات و أسبابها،
فنريد أن نبيّن من ذلك طرفا حسبما جرت عادة إخواننا، و على حسب جهدنا و طاقتنا
فيما وهب اللّه لنا من الهداية، و لكن نبدأ أولا بتوطئة أصول لا