و يبحث. و ذلك من ثلاث جهات: أحدها الجسد
بمجرّده عن النفس، و الثاني النظر في أمر النفس و البحث عن جوهرها بمجرّدها عن
الجسد، و الثالث النظر و البحث عن الجملة المجموعة من النفس و الجسد جميعا. و قد
بيّنّا في رسالة تركيب الجسد هذه الأبواب الثلاثة بشرح طويل، و لكن نذكر طرفا منها
هاهنا مما لا بدّ منه فنقول: إن الجسد هو جسم مؤلّف من لحم و عظم و عروق و عصب و
ما شاكل ذلك. و هذه كلها أجسام طويلة عريضة عميقة، و جملة ذلك تدرك بالحس و لا يشكّ
فيها عاقل. و أما النفس فهي جوهرة سماوية، روحانية حيّة بذاتها، علّامة درّاكة
بالقوّة، فعّالة بالطبع، لا تهدأ و لا تقرّ عن الجولان ما دامت موجودة. و هكذا
خلقها ربها يوم خلقها و أوجدها. و الدليل على ما قلنا و صحة ما وصفنا حسب ما
بيّنّا من أمر النفس آنفا، و كذلك تبيّن أيضا فيما بعد هذا. و أما الجملة المجموعة
من الجسد و النفس بهذا المحسوس المشاهد المخاطب، المتكلّم، السائل، المجيب، العالم
العارف ما دام حيّا، فإذا مات بطل منه ظهور هذه الأشياء، لأن الموت ليس هو شيئا
سوى مفارقة نفسه جسدها، و عند ذلك يعدم منه جميع فضائله الظاهرة من العلوم و
الصنائع، و الكلام و الحركات، و الحواس و ما شاكلها.
ثم اعلم أن أكثر العقلاء و كثيرا من العلماء ممن يقرّ بوجود النفس،
أو يتكلم في أمرها، يظنون و يتوهمون أنها شيء متولّد من مزاج الجسد، و ليس الأمر
كما ظنوا و توهموا، لأن المتولّد من الشيء يتكوّن من جوهر ذلك الشيء، و الجسم
جسم لا شك فيه، و النفس ليس بجسم و لا عرض من الأعراض. و الدليل على ذلك أنها ليست
بجسم، و هو أن الجسم لا يعقل إلّا متحركا أو ساكنا. فلو كان متحركا من حيث هو جسم،
لكان يجب أن يكون كلّ جسم متحركا، و لو كان ساكنا لكان يجب أن يكون كلّ جسم ساكنا،
و ليس يوجد الأمر كذلك، بل قد يوجد بعض الأجسام متحرّكا دائما،