لا أدري ما العلّة في أكل الحيوانات بعضها
بعضا، و لا ما وجه الحكمة فيه! غير أنه قال: الباري الحكيم لا يفعل شيئا إلّا
بحكمته. و منهم من قال:
بل لا حكمة فيه.
و كلّ هذه الأقاويل قالوها في طلبهم الحكمة و العلّة، و إنما لم
يقفوا عليها، لأن نظرهم كان جزئيّا، و بحثهم عن علل الأشياء خصوصيّا، و ليس يعلم
علل الأشياء الكليات بالنظر الجزئي، لأن أفعال الباري إنما الغرض منها النفع
الكليّ و الصلاح العمومي، و إن كان قد نقص من ذلك ضرر جزئي و مكاره خصوصية، و ليس
يعلم علل الأشياء الكليات أحيانا. و المثال في ذلك أحكام الشريعة النبوية و حدوده
فيها، و ذلك لحكم القصاص في القتل.
قال تعالى: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا
أُولِي الْأَلْبابِ» و إن كان موتا و ألما للذي يقتصّ منه، و
كذلك قطع يد السارق منه نفع عمومي و صلاح الكل، و إن كان يناله حزن و ألم. و كذلك
غروب الشمس و طلوعها، و الأمطار كان النفع منها عموميّا و الصلاح كلّيّا، و إن كان
قد يعرض لبعض الناس و الحيوان و النبات من ذلك ضرر جزئي. و هكذا أيضا قد ينال
الأنبياء و الصالحين و أتباعهم شدائد و جهد و آلام في إظهار الدين و إفاضة سنن
الشريعة في أول الأمر. و لكن لما كان الباري تعالى غرضه في إظهار الدين و سنّة
الشريعة هو النفع العام و صلاح الكل من الذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة، و
لا يحصى عددهم و نفعهم و صلاحهم، سهّل في جنب ذلك و صغّر ما نال النبيّ من أذيّة
المشركين، و جهاد الأعداء المخالفين، و ما لا قوه من الحروب و القتال في الغزوات،
و تعب الأسفار، و قيام الليل، و صيام النهار، و أداء الفرائض، و ما فيها من الجهد
على النفوس، و التعب على الأبدان.
و لما كان نزول الأمر في المنقلب إلى الصلاح العمومي و النّفع
الكليّ، كانت الشدائد و الجهد و البلوى في جنبه أمرا صغيرا جزئيّا. فعلى هذا
المثال