يدعوها إلى الأكل و الشرب، ليخلف على
أبدانها من الكيموس[1] بدل ما
يتحلّل من البدن. لأن البدن في التحلّل دائما من أسباب خارجة و أسباب داخلة، و أما
الشهوات فلكيما تدعو إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها و ما تحتاج
إليه طباعها. و أما اللذة فلكيما تأكل بقدر الحاجة من غير زيادة و لا نقصان. فإن
قيل: لم جعل للنفوس من الآلام و الأوجاع و الأفزاع عند الآفات العارضة لأجسادها؟
قيل له: لكيما تحرص نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى وقت معلوم،
إذ كانت الأجساد لا تقدر على جرّ منفعة، و لا دفع مضرّة عنها. فإن قيل: لم جعل بعض
الحيوانات أكلة لحوم بعض؟ قيل لكيما لا يضيع شيء مما خلق اللّه بلا نفع، و ذلك
أنه قد تاهت أوهام العلماء و تحيّرت عقولهم في طلب علّة أكل الحيوانات بعضها بعضا،
و ما وجه الحكمة منه، إذ كان الباري جعل ذلك في طباعها جبلة، و هيّأ بها آلات و
أدوات تتمكن بها، كأنياب و مخاليب و أظافير حداد، التي تقدر بها على القبض، و
البسط، و الضّبط، و الخرق، و النّهش، و الأكل، و الشهوة، و اللذة، و الجوع، و ما
شاكل ذلك، مهما يلحق المأكولات منها من الآلام و الأوجاع و الفزع عند الذبح و
القتل و الأمراض! فلما تفكروا في ذلك و لم تسنح لهم العلّة و لا ما وجه العلّة و
الحكمة، اختلفت عند ذلك بهم الآراء، و التبست بهم المذاهب، حتى قال بعضهم: إنّ
تسلّط الحيوانات بعضها على بعض، و أكل بعضها لبعض ليس من فعل الحكيم، بل فعل شرير
قليل الرحمة، فلهذا قالوا: إن للعالم فاعلين: خيّر و شرير! و منهم من نسب ذلك إلى
النجوم. و منهم من قال: عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب في الأدوار السالفة، و
هم أهل التناسخ. و منهم من قال بالعرض.
و منهم من قال: إن هذا أصلح. و منهم من أقرّ على نفسه بالعجز و قال:
[1] -الكيموس: الحالة التي يكون عليها الطعام بعد فعل
المعدة فيه.