فصل في غرض رباط النفس الكلية بالجسم
الكلي حسب ما تبين هاهنا
فنقول: إنه لما كانت الموجودات كلّها مرتبة بعضها تحت بعض، متعلّقة
في الوجود بالعلة الأولى الذي هو الباري تعالى كتعلّق العدد و ترتيبه عن الواحد
الذي قبل الاثنين، كما بيّنّا في رسالة المبادي العقلية، و كانت النفس أحد
الموجودات، و كانت مرتبتها دون العقل و فوق الجسم المطلق، و كان الجسم فارغا من
الأشكال و الصور و النقوش و الحياة، قابلا لها بالطبع؛ و كانت النفس حيّة بالذات،
علّامة بالقوّة، فعّالة بالطبع، و لم يكن من الحكمة الإلهية و العناية الربّانية
أن تترك النفس فارغة غير مشغولة بضرب من الحكمة، و أن يكون الجسم، مع قبوله
للتمام، عاطلا ناقص الحال؛ و لم يكن للنفس أن تتحكم على الموجودات التي فوق رتبتها
الذي هو العقل الفعال، عطفت النفس بواجب الحكمة على الجسم المطلق، إذ كان دونها في
الرتبة، فتحكمت فيه بالتحريك له و الشكل و التصاوير و النقوش و الأصباغ، ليتمّ
الجسم بذلك، و تكمل النفس أيضا بإخراج ما في قوّتها من الحكمة و الصنائع إلى الفعل
و الظهور و الإظهار، تشبّها بحكمة الباري تعالى، إذ لم يقتصر على علمه بالكائنات
قبل كونها حتى أخرجها إلى الوجود بعد العدم، ليظهر الكلّ للجزء، و يشاهد الجزء
الكلّ و يخرج ما في القوّة من الحكمة و الصنائع إلى الفعل و الظهور.
فمن أجل هذا ربطت النفس الكلية بالجسم الكلي المطلق الذي هو جملة
العالم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، و هي سارية في جميع أفلاكه و
أركانه و مولّداته، و مدبّرة لها و محركة بإذن اللّه تعالى و تقدّس.