حكي في بعض الأخبار أن نبيّا من أنبياء اللّه تعالى قال في مناجاته
مع ربه:
يا ربّ لم خلقت الخلق بعد أن لم تكن خلقته؟ فقال له ربه، على سبيل
الرّمز: كنت كنزا مخفيّا من الخيرات و الفضائل، و لم أكن أعرف فأردت أن أعرف.
معناه لو لم أخلق الخلق، لخفيت هذه الفضائل و الخيرات التي أفضتها و أظهرتها من
عجائب خلقي و مصنوعاتي المحكمات التي كلّت الألسن عن البلوغ إلى كنه صفاتها، و
حارت عقولهم عن كنه معرفتها بحقائقها.
و أنت يا أخي فاحذر من سوء الفهم من كلام العقلاء و الحكماء، و لطيف
أقاويلها و إشاراتها إلى المعاني الدقيقة! فإن سوء الفهم يؤدّي صاحبه إلى سوء الظن
بالحكماء. فمن ذلك ما يتوهمه كثير من الناس في حق الحكماء أنها تقول بقدم العالم و
أزليّته، و هذا هو سوء الظن منهم لسوء فهمهم لأقاويلها و إشاراتها، و ذلك أنهم لما
سمعوا قول الحكماء: إن العالم لم يخلق في زمان و لا هو في مكان، ظن من سمع هذا
القول منهم أنهم يقولون بقدم العالم، و لم يفهم ما أرادوا، و إنما أرادوا بقولهم:
لا زمان و لا مكان أفضل، لأن الزمان عدد حركات الفلك، و المكان سطحه الخارج، فإذا
لم يكن فلك، فلا زمان و لا مكان، بل لما أبدع الباري تعالى الفلك و أداره، أوجد
المكان و الزمان معا بعد وجود الفلك.
و من ذلك أيضا قولهم: إن الجوهر جوهر لنفسه، و العرض عرض لنفسه، فظن
من سمع هذا القول و لم يفهم المراد أنهم يقولون: إنها ليست بجعل جاعل أو بصنع
صانع، إذ كان لنفسه! و ليس الأمر على ما ظنوا و توهموا، و إنما قالت الحكماء هذا
القول، لما تأمّلت الموجودات، و تصفّحت احوالها، وجدت بعضها صفات، و بعضها موصوفات
مختلفات، و عرفت