منها. و هكذا الحكم و المثال في وجود العالم
عن الباري، و ذلك أن العالم ليس بجزء منه، بل فضل تفضّل به، و فيض جود أفاضه، و
فعل فعله بعد أن لم يكن فعل، كما أن المتكلم أظهر الكلام بعد ما لم يكن تكلم، و
ليس الكلام جزءا من المتكلم، بل فعل فعله و صنع أظهره. فقد تبيّن إذا، بما ذكرنا
من هذه المثالات التي تقدّمت، كيفيّة وجود العالم عن اللّه تعالى. و لا تقدر أيضا
و لا ينبغي أن تظن أن وجود العالم عن اللّه تعالى طبعا بلا اختيار منه مثل وجود
نور الشمس في الجو طبعا لا اختيارا منها، و لا تقدر أن تمنع نورها و فيضها لأنها
مطبوعة على ذلك طبعها رب العالمين. فأما الباري تعالى فمختار في فعله إن شاء فعل،
و إن شاء أمسك عن الفعل تركا، مثل المتكلم القادر على الكلام، إن شاء تكلم، و إن
شاء أمسك و سكت. و هكذا حكم إيجاد الباري تعالى و اختراعه، إن شاء أفاض جوده، و
فضله، و نعمته، و إحسانه، و إظهار رحمته و حكمته، و إن شاء أمسك عن الفعل تركا، و
إن شاء لم يمتنع عن إيجاده فعله صنعا، إذ هو قادر على الفعل و ترك الفعل مختارا، كما
ذكر في كتابه: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ
الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ».
و قال: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» و لا يشغله شأن عن شأن.
و إذ قد تبيّن بما ذكرنا حدوث العالم و كيفيّة حدوثه عن اللّه تعالى،
فنريد الآن أن نذكر و نبيّن أيضا كيفيّة بوار العالم و خراب الأفلاك و طيّ
السماوات كطيّ السّجلّ للكتب، بمقدّمات عقلية ضرورية، صادقة، ينتج عنها ما ذكرنا
من بوار العالم و خراب الأفلاك.