الأشياء التي أنت مقرّ بها بلسانك، و تؤمن
بقلبك، ثم تفكر فيما تسمع، و تأمّل ما يوصف لك، و ميّزه ببصيرتك، و اعرضه على عقلك
الذي هو حجة اللّه عليك، و القاضي بينك و بين أبناء جنسك، فإن اتّضحت لك حقيقة ما
تسمع، و تصوّرت ما يصفون، و تيقنت ما يخبرون، فبتوفيق من اللّه و هداية منه. و إن
تكن الأخرى كنت قد بذلت المجهود، و أزلت العذر فيما أنت مكلّف له «وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
و إن لم يتفق لك يا أخي لقاء أحد من أهل هذه الصناعة، بحيث أن تسأله
عن حقيقة هذا السر، و يعرّفك ما تطلب و تريد أن تعلم أنت باجتهادك و عقلك و بصيرتك
و تمييزك، فاسلك في هذا البحث و النظر طريقة الحكماء النجباء، و استعمل القياس
البرهاني الذي هو ميزان العقول، كما وصف في المنطق، و قد بيّنا من علم المنطق في
رسائل شبه المدخل و المقدّمات ما فيه كفاية، و لكن نذكر في هذا الفصل مثالا واحدا
ليقرب به عليك مأخذه.
و اعلم يا أخي، أيّدك اللّه و إيانا بروح منه، أن علم الإنسان المعلومات:
بعضها بطريق الحواس، و بعضها بطريق السّمع و الروايات و الأخبار، و
بعضها بطريق الفكر و الرويّة و التأمّل و العقل الغريزي، و بعضها بطريق الوحي و
الإلهام. و ليس هذا الفن باكتساب من الإنسان و لا باختيار منه، بل هو موهبة من
اللّه تعالى، و بعضها بطريق القياس و الاستدلال، و هو العقل المكتسب، و بهذا العقل
يفتخر العقلاء، و به يتفاضل الحكماء و الفلاسفة.
و اعلم يا أخي، أيّدك اللّه و إيانا بروح منه، أنك إذا طلبت علم
البعث، و معرفة حقيقة القيامة، و ما يوصف من أحوالها، فليست تخلو معرفتها من أحد
هذه الطّرق التي تقدم ذكرها. فإن أردت أن تعرفها بطريق القياس و البرهان، فاعمل في
هذه المسألة و ابحث- أعني معرفة البعث و علم حقيقة القيامة- كما يعمل أصحاب
المجسطي عند طلبهم معرفة عظم جرم الشمس. و ذلك أنهم قالوا: لا يخلو جرم الشمس من
أن يكون مساويا