الحواسّ لها، بقيت تلك الرسوم و الصور
المعشوقة المحبوبة مصوّرة فيها أعين النفوس الجزئية، صورة روحانية، صافية، باقية
معها معشوقاتها، متحدة بها، لا تخاف فراقها و لا فواتها أبدا.
و الدليل على ما قلنا و صحة ما وصفنا معرفة من عشق يوما من أيام عمر
لشخص من الأشخاص ثم تسلّى عنه، أو فقده، أو تغيّر عليه، ثم إنه وجده من بعده، و قد
تغيّر عما كان عليه، و عهده من الحسن و الجمال و تلك الزينة و المحاسن التي كان
رآها على ظاهر جسمه، فإنه متى رجع عند ذلك، فنظر إلى تلك الرسوم و الصّور التي هي
باقية في نفسه منذ العهد القديم، وجدها بحالها تلك و لم تتغيّر، و لم تتبدّل، و
رآها برمّتها، فتشاهد النفس في ذاتها حينئذ، من تلك المحاسن و الصور و الرسوم و
الأصباغ، ما كانت من قبل تراها على غير تغيّر، و تجد في جوهرها ما كانت قبل ذلك
تطلبه خارجا عنها. فعند ذلك تبين له و لم أن المعشوق و المحبوب بالحقيقة إنما هي
تلك الرسوم و الصور التي كان يراها في ذلك الشخص، و هو اليوم يراها منقوشة في
نفسه، مرسومة في جوهره، مصورة في ذاته، باقية لم تتغير! فإذا فكّر العاقل اللبيب
فيما وصفنا، انتبهت نفسه من نوم غفلتها، و استيقظت من رقدة جهالتها، و استقلت
بذاتها، و فازت بجوهرها، و استغنت عن غيرها، و كان حالها كما وصف المحب بقوله:
قد
كنت آلف موطنا و تشوقني،
نحو
الأحبّة، لوعة ما تنكر
و
الآن ما لي مصدر عن موردي،
ما
للعبيد عن الموالى مصدر
فاستراحت نفسه عند ذلك من تعبها و عنائها، و مقاساة صحبة غيرها، و
تخلصت من السقام الذي لا يزال يعرض لعاشقي الأجرام، و محبي الأجسام، حسب ما وصفوه
في أشعارهم، و شكوه من أحوالهم، كما قال بعضهم: