أجل هذا نسبوا كلّ ما يظهر من الأفعال و
الصنائع و العلوم و الحكم على أيدي البشر باختياراتهم، و ما يظهر من الحيوانات من
الأفعال الطبيعية، إلى الجسم المؤلّف من اللحم و الدم على بيّنة مخصوصة؛ و إلى
أعراض حية فيها بزعمهم مثل الحياة و القدرة و العلم و ما شاكلها، و لا يدرون أن مع
الجسد جوهرا آخر هو المحرّك له و المظهر به و منه أفعاله.
فأما الذي يظهر في الأجسام من الأفعال الطبيعية التي لا يمكنهم أن
ينسبوها إلى الحيوان، مثل إحراق النار لأجسام الحيوان و النبات، و مثل ما يستحيل
في أجوافها من الغذاء إلى الرّوث و السّرقين[1]،
و مثل ما يظهر في طباعها من السرور و ما شاكله من الأفعال الطبيعية، فنسبوها كلّها
إلى الباري، جلّ ثناؤه، و منهم من نزّه الباري، سبحانه، عن ذلك، و نسبها إلى البخت
و الاتّفاق. و منهم من نسبها إلى الطبيعة، و لا يدري ما الطبيعة. و منهم من
يعلّلها بعلل مستمرّة. و وقع بينهم في ذلك من التنازع و التناقض ما يطول شرحه.
و أما الحكماء و النّجباء الراسخون في العلم فإنهم شاهدوا بصفاء
نفوسهم، و نور عقولهم، جواهر أخر غير جسمانية، علّامة بقوتها، سارية في الأجسام
بلطافتها، فعّالة فيها برويّتها، هي جند اللّه و لبّ الخليقة، فنسبوا هذه الأفعال
الطبيعية إليها، و نزّهوا الباري، سبحانه، عنها، إلّا ما يليق به من الحكمة و
السياسة و التدبير.
و اعلم يا أخي أن الحكماء الذين عرفوا الجواهر الرّوحانيّة إنما
وصلوا إلى معرفتها بعد اعتبار حال الجسم و الأعراض التي تحلّه. و ذلك أن الجسم من
حيث هو جسم ليس بفاعل و لا متحرّك بل هيولى، منفعل، قابل للصورة و الأعراض الحالّة
فيه، و كذلك الأعراض التي تحلّ الجسم لا فعل
[1] -الروث: سرقين الفرس و كل ذي حافر. السرقين: الزبل.