معدوم من درك الحس له، و معدوم من تصوّر
العقل، و معدوم من إقامة البرهان عليه. و أما علم الباري، جل ثناؤه، بالأشياء فليس
من هذه الطرق الثلاث، بل أشرف و أعلى من هذه كلها، و ذلك أنه لا يقال للباري
سبحانه إنه واجد للأشياء، بل يقال إنه موجد و محدث و مخترع و مبدع و مبق و متمّم و
مكمّل.
و اعلم أيها الأخ أنما علم الإنسان بالباري، عز و جل، و وجدانه له
بإحدى طريقتين: إحداهما عموم و الأخرى خصوص. فالعموم هي المعرفة الغريزية التي في
طباع الخليقة أجمع بهويّته؛ و ذلك أن الناس كلهم: العالم و الجاهل، و الخيّر و
الشرير، و المؤمن و الكافر، كلّهم يفزعون عند الشدائد إلى اللّه، و يستغيثون به، و
يتضرعون إليه، حتى البهائم أيضا في سني الجدب ترفع رءوسها إلى السماء تطلب الغيث،
فهذا العلم منهم يدلّ على معرفتهم بهويّته.
و أما معرفة الخصوص فهي بالوصف له و التجريد و التنزيه و التوحيد، و
هي التي بطرق البرهان، و يختص بها فضلاء الناس و هم الأنبياء و الأولياء و الحكماء
و الأخيار و الأبرار، كما وصفهم فقال في محكم تنزيله:
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» و هي معرفة ضرورية.
و اعلم يا أخي بأن الموجودات كلّها التي أوجدها الباري، سبحانه و
تعالى، بأيّ طريق كان وجدانها ليست تخلو من أن تكون جواهر أو أعراضا أو مجموعا
منهما، هيولى أو صورة أو مركّبا منهما، عللا أو معلولات أو مشارا إليهما، جسمانيّا
أو روحانيّا أو مقرونا بينهما، بسيطا أو مركّبا أو جملتهما. و لما كانت هذه
الأقسام محتوية على الموجودات كلّها احتجنا أن نبيّن نفس معاني هذه الألفاظ
الغامضة التي تاه فيها أكثر العلماء عن الوقوف على حقائق معانيها.
و اعلم يا أخي بأن الموجودات كلّها صور و أعيان غيريّات أفاضها