و هكذا قوة علم الإنسان و معرفته بالأمور
الماضية و أخبار الماضين مع الزمان البعيد، لا يمكنه علمها إلّا ما قرب كونه من
زمانه، مثل معرفتنا بآبائنا و أجدادنا القريبين منا، و مثل علمنا بأخبار بني
إسرائيل، و ما كان بعد الطوفان أو قبل ذلك إلى آدم، 7. فأما ما كان قبل
آدم، 7، من أخبار الملائكة و قصة الجان الذين كانوا يفسدون في الأرض قبل
خلق آدم، 7، فليس للبشر علم بها و لا لهم ميل إلى معرفتها، إلّا من طريق
الوحي عن الملائكة تسليما.
و هكذا علم الإنسان بالأمور الآتية في الزمان المستقبل، لا يمكنه
معرفتها و الاستدلال على كونها بدلائل النجوم، إلّا ما يكون قريب الكون مثل
استدلال المنجّمين بالقرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة، و في كل مائتين و
أربعين سنة مرة، و في كل تسعمائة و ستين سنة مرة. و أما القرانات التي تكون في كل
ثلاثة آلاف و ثمانمائة و أربعين سنة مرة، و في كل سبعة آلاف سنة، فليس على معرفة
الاستدلال بها على الكائنات سبيل لبعدها من الزمان المستقبل.
و هكذا قوة عقل الإنسان متوسطة لا يقوى على تصور الأشياء المعقولة،
إلّا ما كان متوسطا بين الطرفين من الجلالة و الخفاء. و ذلك أن من الأشياء
المعقولة ما لا يمكن عقل الإنسان إدراكه و إحاطة العلم به لجلالته و شدة ظهوره و
بيانه و وضوحه، مثل جلالة الباري، عز و جل، فإنه لا يقوى عقل الإنسان على إدراكه و
إحاطة العلم بماهيّة ذات جلالته، و شدة ظهوره، و وضوح بيانه، لا لخفاء ذاته و شدة
كتمانه. و مثل عجز الإنسان عن تصوّر صورة العالم بكليته، لشدة كبره و ظهوره، لا
لصغره و خفائه. و مثل عجزه أيضا عن إدراك الصّور المجرّدة عن الهيولى لشدة صفائها
و لطافتها و نفوذها في الأشياء.
و من الأشياء ما لا يمكن إدراكها و تصوّرها لخفائها و دقّتها و صغرها
مثل الجزء الذي لا يتجزأ، و مثل الهيولى الأولى المجرّدة من الصّور و الكيفيات،