اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، أن اللّه، جلّ ثناؤه، لما
أبدع الموجودات، و اخترع المخلوقات نظّمها و رتّبها في الوجود كمراتب الأعداد عن
الواحد، لتكون كثرتها دالة على وحدانيته، و ترتيبها و نظامها دالّين على إتقان
حكمته في صنعها؛ و لتكون أيضا نسبتها إلى الذي هو خالقها و مبدعها كنسبة الأعداد
إلى الواحد الذي قبل الاثنين، الذي هو أصلها و مبدؤها و منشؤها كما بيّنّا في
رسالة الأرثماطيقي: و ذلك أن الباري، جلّ ثناؤه، لما كان واحدا بالحقيقة من جميع
الوجوه و المعاني، لم يجز أن يكون المخلوق المخترع واحدا بالحقيقة، بل وجب أن يكون
واحدا متكثّرا مثنويّا مزدوجا، و ذلك أن الباري، جلّ ثناؤه، أول ما بدأ بفعل واحد
مفعولا واحدا متّحدا بفعله الذي هو علة العلل، فلم يكن واحدا بالحقيقة بل فيه
مثنويّة. فلذلك قالوا إنه أوجد و اخترع أشياء مثنوية مزدوجة، و جعلها قوانين
الموجودات و أصول الكائنات. فمن ذلك ما قالت الحكماء الفلاسفة:
الهيولى و الصورة، و منهم من قال: النور و الظلمة، و منهم من قال:
الجوهر و العرض، و منهم من قال: الخير و الشر، و منهم من قال: الإثبات و النفي، و
منهم من قال: الإيجاب و السّلب، و منهم من قال: الروحاني و الجسماني، و منهم من
قال: اللوح و القلم، و منهم من قال: الفيض و العقل، و منهم من قال: المحبة و
الغلبة، و منهم من قال: الحركة و السكون، و منهم من قال:
الوجود و العدم، و منهم من قال: النفس و الروح، و منهم من قال: الكون
و الفساد، و منهم من قال: الدنيا و الآخرة، و منهم من قال: العلّة و المعلول، و
منهم من قال: المبدأ و المعاد، و منهم من قال: القبض و البسط.
و على هذا القياس توجد أشياء كثيرة طبيعية مزدوجة أو متضادّة
كالمتحرّك و الساكن، و الظاهر و الباطن، و العالي و السافل، و الخارج و الداخل، و
اللطيف