ثم اعلم أن من تفكر في كيفية حدوث العالم و علة حدوثه بعد أن لم يكن،
و يريد أن يعرفها أو يتصور كيف كان ذلك، و هو جاهل لا يعرف كيفية تركيب جسده، و لا
يتفكر في بنية هيكله، و لا يدري كيف كان بدء كون ذاته، و لا يعلم ماهيّة جوهر
نفسه، و لا كيفية ارتباطها بجسده، و لا لأي علة ربطت به بعد أن لم تكن مربوطة، و
لا لأي علة تفارق الجسد في آخر العمر عند انقضاء الأجل، و لا تدري أين تذهب إذا
فارقت الجسد، و لا من أين جاءت قبل ذلك؛ هو يريد أن يعرف بدء كون العالم و كيفية
حدوثه، و ما تلك العلة الموجبة لكونه مع جهله بما ذكرنا من هذه الأشياء التي هي
أقرب إلى فهمه، و أسهل لتعليمه، و أمكن لتصوّره، فمثله كمثل رجل لا يطيق حمل مائة
رطل، فهو يتكلف حمل ألف رطل، أو كمثل من لا يقدر على المشي، و هو يريد أن يعدو، أو
من لا يبصر يده إذا أخرجها، و هو يريد أن يرى ما وراء الحجب.
ثم اعلم أنه إذا اعتبر أحوال الإنسان و مجاري أموره من ذلك، و حال
جثته، فإنه متوسط بين الصّغر و الكبر، فلا صغير جدّا و لا كبير مفرطا، فهكذا حال
بقائه فهو لا طويل العمر في الدنيا، و لا قصير المدة فيها.
و هكذا حال وجوده، فلا هو متقدم الوجود على الأشياء، و لا متأخر
عنها، لأن من الموجودات ما هو أقدم وجودا منه كالأركان و الأفلاك، و منها ما هو
متأخر الوجود عنه كالموجودات الصناعية.
و هكذا حال مكانه متوسّط، فلا هو من الطرف الأقصى من العالم، و لا هو
في المركز سواء.
و هكذا حال رتبته في الشرف و الدّماثة متوسّط، لأن من الموجودات ما
هو أشرف منه كالملائكة المقرّبين، و منها ما هو أدون منه كالبهائم.
و هكذا حاله في القوة و الضعف متوسط، فلا هو قوي متين، و لا ضعيف