الفاضلة العالمة قال:
«أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»
اذ النار خير من التراب، لأن النار جسم مضيء متحرك يطلب العلو، و التراب جسم مظلم
ساكن يطلب السّفل. و كان هذا منه قياسا خطأ، لأن السجود لم يكن للجسد الترابي، بل
لتلك الروح الشريفة، لأن الإنسان إنما يأكل و يشرب و ينام من أجل الجسد، و يتحرك و
يحس و يتكلم و يعلم بالنفس الشريفة التي من أمر اللّه.
ثم اعلم أن العلم غذاء للنفس و حياة لها، كما أن الطعام و جميع
المتناولات غذاء و شراب للجسد و حياة له.
ثم اعلم أن العلم بالأشياء، بعضه طبيعي غريزي مثل ما يدرك بالحواس، و
مثل ما في أوائل العقول؛ و بعضه تعليمي مكتسب مثل الرياضات و الآداب، و ما يأتي به
الناموس. فمن الناس من لا يرغب في التعلم و التأدب، بل يتكل على ما تدركه الحواس
أو ما في قرائح العقول. و منهم من يرغب في التعلم و التأدب، لكن من الناس من لا
يقبل من العلم إلّا ما يتصوّر في نفسه أو يقوم عليه برهان هندسي أو منطقي. و منهم
طائفة لا تقبل إلّا ما يدل عليه قول الشاعر؛ و طائفة لا تقبل إلا برواية و خبر. و
منهم طائفة لا تقبل إلّا بالاحتجاج و الجدل. و منهم من يرضى بالتقليد و يقنع بذلك.
و ينبغي لنا أن نبين مبلغ قوة الإنسان في إدراك المعلومات و
المحسوسات إلى أي نهاية، و هي جهده و طاقته في معرفة حقائق الأشياء، و إلى أي حد
ينتهي. لأن في الناس طائفة من العقلاء لما تفكروا في حدوث العالم، و بحثوا عن
العلة الموجبة لكونه، بعد أن لم يكن، لم يعرفوها و لم يتصوروا في عقولهم بدء كون
العالم، فدعاهم جهلهم عند ذلك إلى القول بقدم العالم. و منهم من لاح له شيء غير
ما لاح للآخر، فاختلفت أقاويلهم في حدوث العالم و العلة الموجبة لكونه، بحسب ما
لاح لواحد واحد. و نحن قد بيّنّا في رسالة لنا في المبادي ما تلك العلة، فاعرفها
من هناك.