فقال لهم: طوفوا و اطلبوا من هذه صفته، فإنكم إن تظفروا به قدّموه.
و كان بالقرب منهم باز قد كبر و خرف و ضعفت قوته عن الصيد، و أنحل
جسمه، و تناثر ريشه من قلة المعيشة و تعذّر القوت، فبلغه خبر الغربان و ما أجمعوا
عليه، فبرز من و كره إلى حيث ممرّهم عليه، و أقبل يكثر التهليل و التسبيح، و يظهر
التخضّع و التّورّع، فأقبلت الطيور تطير على رأسه، فلا يولع بها و لا يمشي إليها.
فلما رأته الغربان على تلك الحال، ظنوا أنه يفعل ذلك صلاحا و ديانة، فاجتمع بعضهم
إلى بعض، و قالوا: ما نرى في جماعة الطيور مثل هذا البازي، و ما هو عليه من
الديانة و الزّهد، فهلمّوا بنا نولّه علينا.
فأتوا إليه و أخبروه بما عزموا عليه فانقبض من ذلك، و أراهم من نفسه
الزّهادة فيما عزموا عليه. فلم يزالوا به حتى قبل منهم، فصار خليفة فيهم و ملكا
عليهم. فقال في نفسه: كنتم تحذرون من البلاء و ما أراه إلّا و قد وقع بكم.
فلما تمكن منهم و قوي عليهم بما كانوا يأتونه من الرزق و يجعلون له
من الأجرة على ذلك، و قوي جسمه و نبت ريشه، و عادت إليه صحته، أقبل يخرج كلّ يوم
عدّة من الغربان فيخرج عيونها، و يأكل أدمغتها، و يطرح ما سوى ذلك من أجسادها.
فأقام فيها مدة. فلما دنت وفاته اعتمد على بعض أبناء جنسه فملّكه عليهم، فكان أشدّ
منه و أعظم بليّة و أكبر رزيّة.
فقالت الغربان بعضها لبعض: بئس ما صنعنا بأنفسنا، و قد أخطأنا.
فندموا من حيث لم تنفعهم الندامة، و كان ذلك سبب الخلف و المنازعة.
فتفكر أيها الأخ في هذا المثل و اعتبر به في أحوال من مضى، و لا تغفل
هذه الإشارات، و إياك و إظهار المخالفة و العداوة، و الدّخول فيما دخل فيه