لان أكثرهم متفقون في الأصول، مختلفون في
الفروع. مثاله أنهم مقرّون كلهم بتوحيد اللّه و وصف الباري تعالى بما يليق به من
الصفات، و مقرّون بالنبي المبعوث إليهم، متمسكون بالكتاب المنزل من جهة الرسول
المرسل إليهم، مقرّون بإيجاب الشريعة، مختلفون في الروايات عنه، و المعاني التي
وسائطها رجال أخذوها منه، فرواها كلّ من أخذ بلسانه، لأن النبي، صلى اللّه عليه و
آله، من معجزاته و فضله أنه كان يخاطب كلّ قوم بما يفهمون به بحسب ما هم عليه من حيث
هم، و بحسب ما يتصوّرونه في نفوسهم و تدركه عقولهم، فلذلك اختلفت الروايات، و كثرت
مذاهب الديانات، و اختلفوا في خليفة الرسول، عليه الصلاة و السلام، و كان ذلك من
أكبر أسباب الخلاف في الأمة إلى حيث انتهينا.
و أيضا فإن أصحاب الجدل و المناظرات، و من يطلب المنافسة في الرئاسة
اخترعوا من أنفسهم في الديانات و الشرائع أشياء كثيرة لم يأت بها الرسول، 7، و ما أمر بها؛ و ابتدعوها و قالوا للعوام من الناس: هذه سنّة الرسول، 7، و سيرته. و حسّنوا ذلك لأنفسهم حتى ظنوا أن ما قد ابتدعوه حقيقة، و أن
النبي، 7، أمر به. و أحدثوا في الأحكام و القضايا أشياء كثيرة بآرائهم و
قياسهم، و عدلوا بذلك عن كتاب ربهم و سنّة نبيهم، 7، و استكبروا عن أهل
الذّكر الذين بينهم، و قد أمروا أن يسألوهم عما أشكل عليهم. و ظنوا بسخافة عقولهم
أن اللّه قد ترك أمر الشريعة و فرائض الديانة ناقصة، حتى يحتاج هؤلاء إلى أن
يبينوه بآرائهم الفاسدة و قياساتهم الكاذبة، و اجتهادهم الباطل، و يخترعوه و
يبتدعوه من ذواتهم.
و كيف يكون ذلك و هو يقول تعالى:
«ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» و قال: «تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.» و
إنما فعلوا ذلك طلبا للرئاسة كما بيّنّا آنفا، و أوقعوا الخلاف و المنازعة في
الأمّة، فهم يهدمون الشريعة، و يوهمون من لا يعلم أنهم ينصرونها.