و بهذه الأسباب تفرّقت الأمّة و تحزبت و
وقعت بينها العداوة و البغضاء أبدا، و صاروا إلى الفتن و الحروب، و استحل بعضهم
دماء بعض. فإن اتّعظ بعض من يعرف الحق من العلماء، و خاطب رؤساءهم في ذلك، و
خوّفهم و أرهبهم من عذابه، عدلوا إلى العوامّ، و قالوا لهم: هذا فلان! و يغرون به
العوامّ، و ينسبون إليه من القول ما لم تأت به شريعة، و لا قاله عاقل.
و لا يتمكّن ذلك العالم أن يبيّن للعوامّ كيف جري الأمر في الشريعة،
و ينبههم على فساد ما هم عليه، لما قد غلب عليهم من العصبيّة التي ألفوها و نشؤوا
عليها، و أخذها خلف عن سلف.
و لما رأى رؤساؤهم ذلك، و أن العلماء قد اشمأزوا من العوامّ، جعلوا
ذلك سوقا لهم عندهم، و أوهموهم أن ذلك انقطاع منهم عن الحجّة و القيام بإيرادها، و
أن سكوتهم و تخفّيهم إنما هو لبطلان ما معهم، و أن الحقّ ما هو إلّا ما اجتمعنا
عليه نحن الآن. فلا يزال ذلك دأبهم، و الرؤساء الجهّال فيهم يتزايدون في كل يوم، و
اختلافهم يزيد، و احتجاجاتهم و مناظراتهم تكثر، و جدالهم ينتشر، حتى ينسخوا أحكام
الشريعة، و يغيّروا كتاب اللّه بتفسيرهم له بخلاف ما هو به كما قال: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ.» و في أصل أمرهم قد حوّلوا الشريعة من حيث لا يشعرون، و أوّلوا أخبار
النبي، 7، بتأويلات اخترعوها من تلقاء نفوسهم ما أنزل اللّه بها من
سلطان، و قلبوا المعاني، و تكلموا بها على ما يريدون مما يقوّي رئاستهم، و يقبّح
أهل العم عند العوامّ. و ذلك دأبهم يتوارثونه ابن عن أب، و خلف عن سلف، و كابر عن
كابر، إلى أن يشاء اللّه إهلاكهم، و يقضي بانقراضهم و فنائهم. و لم يزل هؤلاء
الذين هم رؤساء العوامّ أعداء للحق في كل بلد و قرية، فكم نبي قتلوه، و وصيّ
جحدوه، و عالم شرّدوه. و هم بأفعالهم كانوا السبب في نسخ الشرائع و تجديدها في
سالف الدهور، إلى أن يتمّ ما وعد اللّه تعالى بقوله:
«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ» و «الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» «وَ لَقَدْ كَتَبْنا