هذه الأصوات كلّها شيء واحد و هو هيولاها و
لو لاها لما كانت.
فأما كيفية الأصوات التي تعلم الإنسان أنها صدرت عن أجسام حية فهو أن
يكون وصولها إلى حاسة سمعه بسرعة و خفّة، و يجد لنفسه التي تفهمها و تقبلها سرعة
الإخبار عنها بما هي به، بخلاف تلك الأصوات الصادرة عن الأجسام المائية التي لا
يوصل إليها إلّا بالفكرة و الرويّة.
و أيضا فإن الإنسان يأنس بأصوات الحية إذا كان في فلوات بعيدة في
موضع منقطع عن العمران فيستوحش، فإذا سمع نباح كلب أو صوت إنسان استأنس و قويت
نفسه، و علم أنه بقرب عمران، و بخلاف ذلك إذا سمع صوت الوحش يخاف منه على نفسه، و
أيضا صوت هبوب الرياح العواصف، و جريان الأودية، و أمواج البحار، و اهتزاز
الأشجار، و وقع الأحجار، إذا سمعها الإنسان الفريد الوحيد في المواضع النائية عن
الناس استوحش منها غاية الاستيحاش. و لذلك قيل إن في الفلوات و القفار جبالا تنقطع
و تنكسر و تخرّ فيسمع منها أصوات مرتفعة، فإذا سمع الإنسان ذلك يستوحش و لا يأنس
بها.
و قيل أيضا إن النار و الهواء و الماء لا يحكم عليها بموت و لا حياة،
و هي، و إن كانت مادة للحياة و الحركة، فإن ذلك يكون باجتماعها بقوّة طبيعية و
حركة نفسانية بمشيئة إلهية. و أما إذا تفرد كلّ منها بذاته، فلا يقال لها حية و لا
ميتة، و لكن كل واحد منها ذو طرفين: طرف متصل بالحياة، و طرف متصل بالموت، و هو
متوسط بين ذلك. فالتراب طرفه الأعلى و ما لطف منه متصل بالماء، فهو ذو حياة بما
يخرجه و يبرزه من النبات الذي به حياة الحيوان. و طرفه الآخر هو ما كثف منه مثل
الجبال و الصخور و السّباخ، فإنها أموات لا تقبل الماء و لا تحس به، و لا يكون
منها نبات، و لا ينتفع بها حيوان. و الطّرف المتصل بالماء يقال له عمران، و الذي
بعد من الماء يقال له خراب، و هو بالموت أشبه من طرفه العامر.