تعرج به الأرواح و تنزل به النفوس إلى عالم
الكون و الفساد و مجاورة الأجساد.
و لما كان للهواء هذه الفضيلة، صار يحفظ لكل شيء صورته تامّة و
يحوطه حتى يبلغه إلى الحال المقصود به، بحسب ما جعله فيه باريه، جلّت قدرته،
بحكمته، ليكون بذلك إتقان الصنعة و إحكام الخلقة، فلذلك صارت تدركها بما هي به،
إذا كانت الحاسّة سالمة و الأداة كاملة.
و هكذا حاسة الشم تقبل من الهواء ما يحمله من الروائح، فإنه يحفظها و
يتبع الإحاطة بما يعرض من الروائح عن كثير من الأجناس، ثم تؤديها إلى حاسة الشم،
فتخبرها عن كل رائحة بما هي به و عمّا فاحت عنه، و لذلك قيل:
عالم الأرواح روح و ريحان، و نغمات و ألحان، و كذلك النور يحفظ
الألوان على الأجسام، و لا يخلط بعضها ببعض، و تدركها القوة بما هي به، إذا كانت
الحاسة سالمة. ثم إنه متى حدث ببعض الحواس حادث أوجب تغيّر إدراك الحاسة، فليس ذلك
لفساد في الهواء و الضياء، و لكن لفساد المزاج و اضطراب البنية. فإذا كانت الحاسة سالمة،
و جاءتها الأشياء بخلاف ما تعهد، فليس ذلك لفساد فيها، لكن للحادث الذي حدث في
الهواء و الضياء. و ذلك أن الهواء يتغير و يتكدر، و الضياء يظلم، و لذلك صار البصر
لا يدرك بعد مغيب الشمس ما كان يدركه وقت طلوعها. و كذلك السمع لا يدرك من الأصوات
في وقت هيجان الريح و حركة الهواء ما كان يدرك من ذلك في وقت سكون الهواء و هدوء
الرياح.