و شغلهم، ليلهم و نهارهم، و كلامهم كلّه
تقديس و تسبيح و تهليل. و يلتذّ بعضهم بسماع بعض، و يقوم لهم في ذلك العالم
العلويّ مقام الغذاء الجسماني في العالم السّفليّ. و ذلك أن حاسة السمع محسوساتها
كلّها روحانية. و لذلك قيل إن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء طبيعته و صفاء جوهره،
نغمات الأفلاك، و إنه استخرج الآلة التي تسمّى العود؛ و إنه أول من ألف الألحان، و
من بعده من الحكماء الذين اقتدوا به و بان لهم حقيقة ما وصفه، فصدّقوه و تابعوه و
اتّسعوا في فعل ذلك، كلّ بقدر ما اتسع له زمانه، و ساعده عليه إمكانه.
فصل
ثم إن لكل صوت صفة روحانية تختص به خلاف صوت آخر، فإن الهواء، من شرف
جوهره و لطافة عنصره، يحمل كل صوت بهيئته و صيغته، و يحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض
فيفسد هيئاتها، إلى أن يبلغها إلى أقصى غاياتها عند القوّة السامعة، لتؤديها إلى
القوة المفكرة. ذلك تقدير العزيز العليم الذي جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة،
قليلا ما تشكرون. فإن قال قائل:
ما العلة التي أوجبت للهواء هذه الفضيلة الشريفة و الحركة الخفيفة؟
فنقول:
لقد سألت عن أمر يجب السؤال عنه، إذ كان من أكثر الفوائد، فيجب أن
تعلم أن جسم الهواء لطيف شريف، و هو متوسط بين الطرفين، فما هو فوقه ألطف منه و هو
النور و الضياء، و ما دونه أكثف و هو الماء و التراب، و لما كان الهواء أصفى من
الماء و ألطف و أشرف جوهرا و أخفّ حركة، صار النور يسري فيه و يصبغه بصبغته و
يودعه روحانيّته، لأنه قد قاربه و جانسه بما فيه من اللطافة. و لما كان النور و
الضياء أصله و مبدأه من أشرف الجواهر الغالية، صار له اتصال بالنفوس و الأرواح، و
صارت سارية فيه، و هو المعراج الذي