و العدل في الطلب هو ما لم يمل إلى الإلحاح
في المسألة، و لا إلى الابتهال و الخضوع. و الحر لا يكون مهينا و الكريم لا يكون
لجوجا. و لهذا قيل:
القنوع خير من الخضوع، و العدل في السياسة ما لم يمل إلى عبوس موحش و
لا ملق مدهش. فإن العبوس يشين المودة، و يزيل ما في القلب من صفاء المحبة، و الملق
يذهب برونق المروءة. و لهذا قيل من كثر ملقه لم يعرف ودّه. و العدل في البلاغة ما
لم يقصر عن درك البغية، و إصابة المعنى، و قصد الغرض. أ لا ترى أن الهذر في المنطق
بعد بلوغ الغاية لا يحتاج إليه، و لو كانت البلاغة هي البلوغ إلى غايات المعاني،
لكان العالم كلهم بلغاء، خاصّهم و عامّهم. لأنه ما من أحد إلّا و هو إذا عبّر عمّا
في نفسه بلغ غرضه في إفهام السامع عنه ما يريده منه، على حسب استطاعته و ما تساعده
عليه آلاته. و إنما البلاغة هي التوصّل إلى إفهام المعنى بأوجز مقال و أبلغ كلام،
ليعرف به المراد بأسهل المسالك و أقرب الطرق بواضح البيان و صادق المقال.
و الإيجاز في ذلك ما بلغت غاياته بيسير اللفظ، و الإطناب ما بلغت
غاياته بالتطويل، فصارت البلاغة حينئذ التوسط بين الحالتين، و التوصل إلى إدراك
الغاية من أقرب الطرق. و قيل البلاغة معرفة مواضع المفاصل المطلوبة بألفاظ مفهومة،
و البليغ هو الذي لا يؤتى سامعه من سوء إفهامه، و الفهيم الذي لا يأتي بسوء فهم من
يريد إفهامه بتقصير عن البلاغة في خطابه أو كتابه، فيخرق بفهمه و صفاء ذهنه تلك
الحجب الحائلة بينه و بين المعنى الذي يقدر على الفهم، لأنه يجرّده من تلك الشوائب
المعوّقة له عن البيان و الإيضاح. و البلاغة في اللغة من بالغت في كذا و كذا، و هي
مشتقّة من المبالغة. يقال بلغت أبلغ بلوغا، فالمصدر منه بلاغة، فأنا بالغ. و تقول
أبلغت الكلام و بلّغته إلى فلان أي أدّيته إليه.
و اعلم أن المعاني تنطق بها أفواه السّوقة و العوامّ في الأسواق و
الطرق، و لكن قلّ من يحسن العبارة عنها. و ربما أراد المعنى فعبّر عن غيره و هو
يظن