و الصواب من الخطإ، و الضارّ من النافع، ثم
تؤديها إلى القوة الحافظة التي مجراها مؤخّر الدماغ لتحفظها إلى وقت الحاجة و
التذكار. ثم إن القوة الناطقة تتناول تلك الرسوم المحفوظة، و تعبر عنها عند البيان
للقوة السامعة من الحاضرين في الوقت.
و لما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلّا ريثما تأخذ الأسماع حظها،
ثم تضمحل، اقتضت الحكمة الإلهية و العناية الربّانية، و احتالت الطبيعة بأن قيّدت
تلك الألفاظ بصناعة الكتابة. و ذلك أن القوة الصناعية إذا أرادت تقييدها، صاغت لها
صورا من الخطوط بالقلم، و أودعتها وجوه الألوان، و بطون الطوامير، ليبقى العلم
مفيدا فائدة من الماضين للغابرين، و أثرا من الأولين للآخرين، و خطابا من الغائبين
للحاضرين. و هذا من جسيم نعم اللّه تعالى على الإنسان كما ذكر في كتابه فقال: «اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ».
فصل
اعلم يا أخي أنه إذا تفكّر الإنسان العاقل الفهيم في هذه القوة التي
تقدّم ذكرها، و كيفية سريانها في أعضاء الجسم، و تصرّفها في إدراك هذه المحسوسات،
و تصوّرها رسوم المعلومات، و اطلاع النفس عليها كلها في جميع حالاتها، تكون هذه
شاهدة له من نفسه لنفسه، و دليلا من ذاته على أن للنفس الكلية قوى كثيرة منبثّة في
فضاء الأفلاك و أطباق السماوات، و أركان الأمهات، و في الحيوانات و النبات، موكّلة
بحفظ الخليقة، و مرتّبة لصلاح البرية، و هم ملائكة اللّه جلّ اسمه، و خالص عباده و
صفوته من بريّته، لا يعصون اللّه ما أمرهم، و يفعلون ما يؤمرون من غير خطاب و لا
كلام.